الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(19) باب أي الصدقة أفضل وفضل اليد العليا والتعفف عن المسألة
[900]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعظَمُ أَجرًا؟ فَقَالَ: (أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ: أَن تَصَدَّقَ وَأَنتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخشَى الفَقرَ وَتَأمُلُ البَقَاءَ، وَلا تُمهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلقُومَ قُلتَ:
ــ
(19)
ومن باب: أي الصدقة أعظم
قوله صلى الله عليه وسلم: (أما وأبيك لتنبأنَّه)، أما: استفتاح للكلام، وأبيك قسم ومقسم به. وتقدم الكلام على القسم بالأب في كتاب الإيمان. والمقسم عليه: لتُنَبَّأنَّه؛ أي: لَتُخبَرَنَّ به حتى تعلمه.
والشح: المنع مطلقًا، يعم منع المال وغيره. وهو من أوصاف النفس المذمومة؛ ولذلك قال الله:{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ} والبخل: بالمال، فكأنه نوع من الشحّ. قال معناه الخطابي. وقد دل على صحة هذا قوله صلى الله عليه وسلم:(إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا)(1)؛ أي: شح النفس، وهو منعها من القيام بالحقوق المالية وغيرها.
وقوله: (حتى إذا بلغت الحلقوم)؛ أي: النفس، ولم يجر لها ذكر، لكن دل عليها الحال، كما قال تعالى:{فَلَولا إِذَا بَلَغَتِ الحُلقُومَ} ومعناه: قاربت الحلقوم، فلو بلغته لم تأت منه وصية ولا غيرها. والحلقوم: الحلق.
(1) رواه أبو داود (1698) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
لِفُلانٍ كَذَا، وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَد كَانَ لِفُلانٍ).
وَفِي رِوَايَةٍ: (أَلا وَقَد كَانَ لِفُلانٍ).
رواه أحمد (2/ 25 و 231)، والبخاري (1419)، ومسلم (1032)، وأبو داود (2865)، والنسائي (5/ 86)، وابن ماجه (2706).
[901]
وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ عَلَى المِنبَرِ وَهُوَ يَذكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ المَسأَلَةِ (اليَدُ العُليَا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلَى، وَاليَدُ العُليَا المُنفِقَةُ وَالسُّفلَى السَّائِلَةُ).
رواه أحمد (2/ 67)، والبخاري (1429)، ومسلم (1033)، وأبو داود (1648)، والنسائي (5/ 61).
ــ
وقوله: (لفلان كذا، ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان)، قال الخطابي: مراد به الوارث.
قلت: وفيه بُعدٌ، بل الأظهر أنه الموصى له، ممن تقدّمت وصيته له على تلك الحالة، ومن ينشئ له الوصية في تلك الحالة أيضًا.
وقوله: وهو يذكر الصدقة، والتعفُّف عن المسألة؛ أي: يحضُّ الغني على الصدقة، والفقير على التعفُّف عن المسألة.
وقوله: (اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى)، ثم فسّر اليد العليا بالمُنفِقَة والسُّفلى بالسائلة، وهو نصٌّ يرفع تعسُّف من تعسَّف في تأويله، غير أنه وقع هذا الحديث في كتاب أبي داود، وقال فيه في بعض طرقه بدل المنفقة: المتعففة. قال: وقال أكثرهم: اليد العليا: المنفقة.
وذكر أبو داود أيضًا من حديث مالك بن نضلة مرفوعًا: (الأيدي ثلاث: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى، فأعطِ الفضلَ، ولا تعجز عن نفسك)(1).
(1) رواه أبو داود (1649).
[902]
وَعَن حَكِيمَ بنَ حِزَامٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَفضَلُ الصَّدَقَةِ، أَو خَيرُ الصَّدَقَةِ عَن ظَهرِ غِنًى، وَاليَدُ العُليَا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلَى، وَابدَأ بِمَن تَعُولُ).
رواه البخاري (1472)، ومسلم (1034)، والنسائي (5/ 69).
ــ
وقوله: (وابدأ بمن تعول)؛ يعني: أنه يبدأ بكفاية من تلزمه كفايته، ثم بعد ذلك يدفع لغيرهم؛ لأن القيام بكفاية العيال واجب، والصدقة على الغير مندوبٌ إليها، ولا يدخل في ذلك ترفيه العيال الزائد على الكفاية، فإن الصدقة بما يرفه به العيال أولى؛ لأن من لم تندفع حاجته أولى بالصدقة ممن اندفعت حاجته في مقصود الشرع.
وقوله: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى)؛ أي: ما كان من الصدقة بعد القيام بحقوق النفس وحقوق العيال. وقال الخطابي: أي: متبرعًا، أو عن غنى يعتمده، ويستظهر به على النوائب. والتأويل الأول أولى، غير أنه يبقى علينا النظر في درجة الإيثار التي أثنى الله بها على الأنصار؛ إذ قال:{وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ} وقد روي: أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من الأنصار ضافه ضيف فنوَّم صبيته وأطفأ السِّراج، وآثر (1) الضيف بقوتهم. وكذلك قوله تعالى:{وَيُطعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} ؛ أي: على شدّة الحاجة إليه والشهوة له، ولا شكّ أن صدقة مَن هذه حالُه أفضل.
وفي حديث أبي ذر: (أفضل الصدقة جهد من مقل)(2). وفي حديث أبي هريرة: (سبق درهم مائة ألف)، قالوا: وكيف؟ قال: (رجل له درهمان، فتصدق بأحدهما، ورجل له مال كثير، فأخذ من
(1) في (ع) و (ظ): وآثروا.
(2)
رواه الحميدي (1276)، وابن عدي (3/ 1085). وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (566).
[903]
وَعَنهُ قَالَ: سَأَلتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَعطَانِي، ثُمَّ سَأَلتُهُ فَأَعطَانِي، ثُمَّ سَأَلتُهُ فَأَعطَانِي، ثُمَّ قَالَ:(إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلوَةٌ، فَمَن أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَن أَخَذَهُ بِإِشرَافِ نَفسٍ لَم يُبَارَك لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأكُلُ وَلا يَشبَعُ، وَاليَدُ العُليَا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلَى).
ــ
عرض ماله مائة ألف فتصدّق بها) (1). فقد أفاد مجموع ما ذكرنا: أن صدقة المؤثر والمُقِل أفضل، وحينئذ يثبت التعارض بين هذا المعنى وبين قوله:(خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى)؛ على تأويل الخطابي.
فأما على ما أوَّلنا به الغنى، فيرتفع التعارض، وبيانه: أنَّ الغنى يعني به في الحديث: حصول ما تدفع به الحاجات الضرورية؛ كالأكل عند الجوع المشوِّش الذي لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله، فهذا ونحوه مما لا يجوز الإيثار به، ولا التصدُّق، بل يحرم؛ وذلك: أنه إن آثر غيره بذلك، أدى إلى هلاك نفسه، أو الإضرار بها، أو كشف عورته، فمراعاة حقَّه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صحّ الإيثار، وكأن صدقته هي الأفضل؛ لأجل ما يحمله من مضض الحاجة وشدَّة المشقة، والله تعالى أعلم.
وقوله: (إن هذا المال خضرة حلوة)؛ أي: روضة خضراء، أو شجرة ناعمة غضَّة مستحلاة الطعم.
وقوله: (فمن أخذه بطيب نفس)؛ أي: بسخاوتها، وقلة حرصها، بورك له فيه؛ أي: انتفع صاحبه في الدّنيا بالتنمية، وفي الآخرة بأجر النفقة. وإشراف النفس: هو حرصها وتشوُّفها.
وقوله: (ولم يبارك له فيه)؛ أي: لا ينتفع به صاحبه؛ إذ لا يجد لذة نفقته،
(1) رواه أحمد (2/ 379)، والنسائي (5/ 59)، وابن ماجه (3684).
رواه أحمد (3/ 334)، ومسلم (1035)، والنسائي (5/ 60 و 100).
[904]
وَعَن أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا ابنَ آدَمَ إِنَّكَ أَن تَبذُلَ الفَضلَ خَيرٌ لك، وَأَن تُمسِكَهُ شَرٌّ لك، وَلا تُلامُ عَلَى كَفَافٍ، وَابدَأ بِمَن تَعُولُ، وَاليَدُ العُليَا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلَى).
رواه مسلم (1036)، والترمذي (2344).
ــ
ولا ثواب صدقته، بل يتعب بجمعه، ويُذمّ بمنعه، ولا يصل إلى شيء من نفعه. ولا شك في أن الحرص على المال وعلى الحياة الدنيا مذموم، مفسد للدين، كما قال صلى الله عليه وسلم:(ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)(1).
وقوله: (إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسك شرٌّ لك)، الفضل يعني به: الفاضل عن الكفاية (2)، ولا شكَّ في أن إخراجه أفضل من إمساكه. فأما إمساكه عن الواجبات فشرٌّ على كل حال، وإمساكه عن المندوب إليه فقد يقال فيه شرٌّ؛ بالنسبة إلى ما فوَّت الممسك على نفسه من الخير. وقد تقدّم بيان هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم:(وشرُّ صفوف الرجال آخرها)(3)؛ وأن معنى ذلك: أنها أقل ثوابًا.
وقوله: (ولا تلام على كفاف)، يفهم منه بحكم دليل الخطاب: أن ما زاد على الكفاف يتعرض صاحبه للذمّ.
(1) رواه أحمد (3/ 460)، والترمذي (2376) من حديث كعب بن مالك.
(2)
في (ع): الكفاف.
(3)
رواه مسلم (440)، وأبو داود (678)، والترمذي (224)، والنسائي (2/ 93)، وابن ماجه (1000) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[905]
وَعَن مُعَاوِيَةَ بنَ أَبِي سُفيَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لا تُلحِفُوا فِي المَسأَلَةِ، فَوَاللهِ لا يَسأَلُنِي أَحَدٌ مِنكُم شَيئًا فَتُخرِجَ لَهُ مَسأَلَتُهُ مِنِّي شَيئًا، وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعطَيتُهُ).
رواه أحمد (4/ 98)، ومسلم (1038)، والنسائي (5/ 97 - 98).
* * *
ــ
وقوله: (لا تُلحِفوا في المسألة)؛ هكذا صحيح الرواية، ومعناه: لا تنزلوا بي المسألة الملحف فيها؛ أي: لا تُلِحُّوا علي في السؤال. والإلحاف: الإلحاح.
وإنما نهى عن الإلحاح؛ لما يؤدي إليه من الإبرام واستثقال السائل، وإخجال المسئول، حتى أنه إن أخرج شيئًا أخرجه عن غير طيب نفس، بل عن كراهة وتبرُّم، وما استخرج كذلك لم يبارك فيه؛ لأنه مأخوذ على غير وجهه، ولذلك قال:(فَتُخرِجَ له المسألة شيئًا وأنا كاره له).
ثم قد كانوا - أعني المنافقين - يكثرون سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُبَخّلوه، فكان يعطي العطايا الكثيرة بحسب ما يُسأل؛ لئلا يتم لهم غرضهم من نسبته إلى البخل؛ كما قال:(إن قومًا خيَّروني بين أن يَسألوني بالفحش، وبين أن يُبَخّلوني ولست بباخل)(1).
* * *
(1) رواه أحمد (1/ 20 و 35)، ومسلم (1056) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.