الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(24) باب الغنى غِنَى النفس وما يخاف من زهرة الدنيا وفضل التعفف والقناعة
[918]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَيسَ الغِنَى عَن كَثرَةِ العَرَضِ وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفسِ).
رواه أحمد (2/ 243 و 389)، والبخاري (6446)، ومسلم (1051)، والترمذي (2373)، وابن ماجه (4137).
ــ
وأما في هذا الحديث، فإنما يتناول أن يخبر عن نفسه بشيء فعله فيما مضى، ويتمدح به فقط، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:(فتكتب شهادةً في أعناقكم).
(24)
ومن باب: الغنى غنى النفس
قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض) - بفتح العين والراء -، وهو: حُطام الدنيا ومتاعها. فأما العَرض - بفتح العين وسكون الراء -، فهو: ما خلا العقار والحيوان فيما يدخله الكيل والوزن، هذا قول أبي عبيد في العَرَض والعَرض. وفي كتاب العين: العَرَض: ما نيل من الدنيا، ومنه قوله تعالى:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنيَا} وجمعه: عُروض.
ومعنى هذا الحديث: أن الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح، هو غنى النفس، وبيانه: أنه إذا استغنت نفسه كفّت عن المطامع، فعزّت وعظمت، فجعل لها من الحظوة والنزاهة والتشريف والمدح أكثر ممن كان غنيًا بماله، فقيرًا بحرصه وشرهه، فإن ذلك يورطه في رذائل الأمور، وخسائس الأفعال، لبخله ودناءة همّته، فيكثر ذامُّه من الناس، ويصغر قدره فيهم؛ فيكون أحقر من كل حقير، وأذل من كل صغير.
[919]
وَعَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَخوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيكُم مَا يُخرِجُ اللهُ لَكُم مِن زَهرَةِ الدُّنيَا. قَالُوا: وَمَا زَهرَةُ الدُّنيَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (بَرَكَاتُ الأَرضِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَهَل يَأتِي الخَيرُ بِالشَّرِّ؟ قَالَ: لا يَأتِي الخَيرُ إِلا بِالخَيرِ، لا يَأتِي الخَيرُ إِلا بِالخَيرِ، لا يَأتِي الخَيرُ إِلا بِالخَيرِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَوَخَير هُوَ؟ ، إِنَّ كُلَّ مَا يَنبِتُ الرَّبِيعُ يَقتُلُ حَبِطًا أَو يُلِمُّ
ــ
و(زهرة الدنيا): زينتها، وما يزهر منها، مأخوذ من زهر الأشجار، وهو ما يصفر من نَوَّارها. والنور: هو الأبيض منها، وهذا قول ابن الأعرابي. وحكى أبو حنيفة: أن النورَ والزهر سواء. وقد فسّرها صلى الله عليه وسلم: بأنها بركات الأرض؛ أي: ما تزهر به الأرض من الخيرات والخصب.
و(قول السائل): وهل يأتي الخير بالشر؟ سؤال من استبعد حصول شرّ من شيء سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: بركات، وسماه (1) خَيرًا في قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيرِ لَشَدِيدٌ} وشبهه مما سُمِّي المال فيه: خيرًا. فلما فهم صلى الله عليه وسلم من سؤاله هذا الاستبعاد أجابه جواب من بقي عنده اعتقاد: أن الخير الذي هو المال قد يعرض له أن يحصل عنه شر؛ إذا تعدى به حده وأسرف فيه، ومنع من حقه، ولذلك قال: أوخير هو؟ بهمزة الاستفهام، وواو العطف الواقعة بعدها المفتوحة على الرواية الصحيحة، منكرًا على من توهم أنه لا يحصل منه شر أصلاً، لا بالذات، ولا بالعرض.
وقوله: (إن كل ما ينبت الربيع يقتل حَبَطًا أو يُلِمُّ)، الربيع: الجدول الذي يسقى به. والجمع: أربعاء. والجدول: النهر الصغير، الذي ينفجر من النهر
(1) ساقط من (ع).
إِلا آكِلَةَ الخَضِرِ فَإِنَّهَا تَأكُلُ، حَتَّى إِذَا امتلأت خَاصِرَتَاهَا استَقبَلَتِ الشَّمسَ ثُمَّ اجتَرَّت. وَبَالَت وَثَلَطَت ثُمَّ عَادَت فَأَكَلَت، فإن هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلوَةٌ، فَمَن أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ، فَنِعمَ المَعُونَةُ هُوَ. وَمَن أَخَذَهُ بِغَيرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأكُلُ وَلا يَشبَعُ).
ــ
الكبير. والحبط: الانتفاخ، يقال: حبطت الدابة تَحبط، إذا انتفخ بطنها من كثرة الأكل، وربما تموت من ذلك، وأصل الحبط: الإبطال والإفساد. ومنه: {فَحَبِطَت أَعمَالُهُم} ؛ أي: بطلت.
ويلم؛ أي: يقرب من الموت، وأصله: من ألم بالمكان؛ إذا نزل به. ومنه قول الشاعر:
متى تأتنا تُلمِم بنا في ديارنا
أي: تنزل.
قال الأزهري: هذا الخبر إذا بتر لم يكد يفهم، وفيه مثلان، ضُرب أحدهما للمفرط في جمع الدنيا ومنعها من حقها، وضرب الآخر للمقتصد في أخذها والانتفاع بها.
فأما قوله: (وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا)، فهو مثل للمفرط الذي يأخذها بغير حق؛ وذلك أن الربيع ينبت أحرار البقول (1) والعشب، فتستكثر منها الماشية، حتى تنتفخ بطونها لما جاوزت حدّ الاحتمال، فتنشق أمعاؤها وتهلك، وكذلك الذي يجمع الدنيا من غير حلها، ويمنع ذا الحقّ حقه، فيهلك في الآخرة بدخوله النار. وأما مثل المقتصد، فقوله صلى الله عليه وسلم:(إلا آكلة الخَضِر) إلى آخره، وذلك أن الخَضِر ليست من أحرار البقول التي ينبتها الربيع، ولكنها من الجَنبَة التي ترعاها المواشي بعد تهيج البقول، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم آكلة الخضر من المواشي مثلا لمن
(1) هو كلُّ ما أُكِل غير مطبوخ.
وَفِي رِوَايَةٍ: (وَإِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرٌ حُلوٌ، وَنِعمَ صَاحِبُ المُسلِمِ هُوَ لِمَن أَعطَى مِنهُ المِسكِينَ وَاليَتِيمَ وَابنَ السَّبِيلَ - أَو كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَإِنَّهُ مَن يَأخُذُهُ بِغَيرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأكُلُ وَلا يَشبَعُ، وَيَكُونُ عَلَيهِ شَهِيدًا يَومَ القِيَامَةِ).
رواه أحمد (3/ 7)، ومسلم (1052)(121 - 123)، وابن ماجه (3995).
ــ
يقتصد في أخذه الدنيا وجمعها، ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها كما نجت آكلة الخضر، ألا تراه صلى الله عليه وسلم قال:(فإنها إذا أصابت من الخضر استقبلت عين الشمس، فثلطت وبالت)؛ أراد أنها إذا شبعت منها بركت مستقبلة الشمس؛ لتستمرئ بذلك ما أكلت، وتجتر، وتثلط، وإذا ثلطت فقد زال عنها الحبط، وإنما تحبط الماشية لأنها لا تثلط، ولا تبول. هذا آخر كلام الأزهري.
والثلط: ما تلقيه الماشية سهلاً رقيقًا، يقال منه: ثَلَطَ يثلط ثلطًا.
واجترت؛ أي: مضغت جرتها، وهو ما أخرجته من جوفها إلى فيها مما رعته. والخَضِر: كلأ الصيف.
قال الأزهري: هو - هنا - ضرب من الجَنبة. وهي من الكلأ ما له أصل غامض في الأرض، واحدتها خضرة. ووقع في رواية العذري: إلا آكلة الخَضِرة - بفتح الخاء، وكسر الضاد - على الإفراد. كما قال الأزهري. وعند الطبري: الخُضرَة: بضم الخاء، وسكون الضاد. والرواية الصحيحة: إلا آكلة الخضرة بإلَّا المشددة، للاستثناء، وهو الواضح. ووقع لبعضهم: ألا، التي للاستفتاح، وبُعدُها واضح، وفيها تكلُّف.
وقوله: (ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة)؛ يحتمل البقاء على ظاهره، وهو أنه يجاء بماله يوم القيامة فينطق الصامت منه بما فعل فيه، أو يمثل له أمثال حيوانات، كما جاء في مال مانع الزكاة من أنه مثل له ماله شجاعًا أقرع، أو يشهد عليه الموكلون بكتب الكسب والإنفاق وإحصاء ذلك، والله تعالى أعلم.
[920]
وَعَنهُ، أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعطَاهُم، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعطَاهُم، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِندَهُ، قَالَ:(مَا يَكُن عِندِي مِن خَيرٍ فَلَن أَدَّخِرَهُ عَنكُم، وَمَن يَستَعفِف يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَن يَستَغنِ يُغنِهِ اللهُ، وَمَن يَصبِر يُصَبِّرهُ اللهُ، وَمَا أُعطِيَ أَحَدٌ مِن عَطَاءٍ خَيرا وَأَوسَعُ مِنَ الصَّبرِ).
رواه أحمد (3/ 93)، والبخاري (1469)، ومسلم (1053)، وأبو داود (1644)، والترمذي (2024)، والنسائي (5/ 95 - 96).
[921]
وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (قَد أَفلَحَ مَن أَسلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ).
رواه أحمد (2/ 168 و 172)، ومسلم (1054)، والترمذي (2348)، وابن ماجه (4138).
ــ
وقوله: (ومن يستعفف)؛ أي: عن السؤال للخلق.
(يعفه الله)؛ أي: يجازه على استعفافه بصيانة وجهه، ورفع فاقته.
وقوله: (ومن يستغن)؛ أي: بالله، وبما أعطاه. (يغنه)؛ أي: يخلق في قلبه غنىً، أو يعطه ما يستغني به عن الخلق.
وقوله: (ومن يتصبر)؛ أي: يستعمل الصبر. و (يصبّره): يقوه، ويمكنه من نفسه حتى تنقاد له، وتذعن لتحمّل الشدائد، وعند ذلك يكون الله معه، فيظفره بمطلوبه، ويوصله إلى مرغوبه.
وقوله: (قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا)؛ قد قدّمنا بيان الفلاح ما هو لغةً وعرفًا في كتاب الإيمان.
و(الكفاف): ما يكف عن الحاجات، ويدفع الضرورات والفاقات، ولا يلحق بأهل الترفهات.
ومعنى هذا الحديث: أن من فعل تلك الأمور، واتصف بها، فقد حصل على مطلوبه، وظفر بمرغوبه في الدُّنيا والآخرة.