الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(6) باب في قوله تعالى: {يَسأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ}
[1265]
عَن مُصعَبِ بنِ سَعدٍ، عَن أَبِيهِ قَالَ: نَزَلَت فِيَّ أَربَعُ آيَاتٍ: أَصَبتُ سَيفًا، فَأَتَيت بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَلتَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَفِّلنِيهِ، قَالَ:
ــ
كل ذلك عن هذه الأمة، وأحل لهم غنائمهم، وقربانهم، رفقًا بهم، ورحمة لهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:(ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا)، وجعل ذلك من خصائص هذه الأمة؛ كما قال:(فلم تحل الغنائم لأحدٍ قبلنا)، وقد جاء في الكتب القديمة: أن من خصائص هذه الأمة: أنهم يأكلون قربانهم في بطونهم. وما جرى لهذا النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه في أخذ (1) الغلول آية شاهدة على صدقه، وعلى عظيم مكانته عند ربِّه. وفي حديثه أبواب من الفقه لا تخفى على فطن. والله أعلم.
(6)
ومن باب: قوله تعالى: {يَسأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ}
قول سعدٍ: (نزلت فيَّ أربعُ آيات)، ولم يذكر غير آية واحدة هنا، وقد جاءت الثلاثة الباقية مبيّنة في كتاب مسلم، وسيأتي.
وقوله: (نفلنيه)؛ أي: أعطني إيَّاه. قال لبيد:
إن تقوى ربنا خيرُ نَفَل
…
وبإذن الله رَيثِي والعجل (2)
ومنه سُمي الرَّجل نوفلًا لكثرة عطائه. ويكون النفل أيضًا: الزيادة. ومنه نوافل الصلوات، وهي الزوائد على الفرائض.
(1) ساقطة من (ع).
(2)
في جميع النسخ والديوان: وعجل، وما أثبتناه من اللسان. وفي (ج) و (ع) واللسان والديوان: ريثي. وفي باقي النسخ: (ربّي). والرَّيث: الإبطاء.
ضَعهُ. ثُمَّ قَامَ. فَقَالَ: نَفِّلنِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أو أجعل كمن لا غناء له؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه من حيث أخذته. قَالَ: فَنَزَلَت هَذِهِ الآيَةُ: {يَسأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ
ــ
وقوله: (أو أُجعل كمن لا غناء له)؛ الرِّواية الصحيحة بفتح الواو، ومن سكَّنها غلط؛ لأنها الواو الواقعة بعد همزة الاستفهام، ولا تكون إلا مفتوحة. وأما (أو) الساكنة: فلا تكون إلا لأحد الشيئين. وهذا الاستفهام من سعد على جهة الاستبعاد والتعجب من أن ينزل من ليس في شجاعته منزلته، لا على جهة الإنكار، لأنه لا يصح، ولا يحل الإنكار على النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما ممن يكون في منزلة سعد، ومعرفته بحق النبي صلى الله عليه وسلم، واحترامه له.
و(الغناء) بفتح الغين، والمد: النفع. و (الغِنى) - بكسر الغين والقصر -: كثرة المال.
وقوله: (فنزلت هذه الآية: {يَسأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ}؛ يقتضي أن يكون ثمَّ سؤال عن حكم الأنفال، ولم يكن هنالك سؤال عن ذلك على ما يقتضيه هذا الحديث، ولذلك قال بعض أهل العلم: إن (عن) صلة. ولذلك قرأ ابن مسعود بغير (عن): (يسألونك عن الأنفال). وقال بعضهم: إن (عن) بمعنى (مِن)؛ لأنه إنما سأل شيئًا معينًا، وهو السيف، وهو من الأنفال.
و(الأنفال): جمع نفل - بفتح الفاء -؛ كجمل وأجمال، ولبن وألبان.
وقد اختلف في المراد بالأنفال هنا في الآية؛ هل هي الغنائم؟ لأنها عطايا، أو هي مما ينفل من الخمس بعد القسم؟ وكذلك اختُلف في أخذ سعد لهذا السيف؛ هل كان أخذه له من القبض قبل القسم، أو بعد القسم؟ (1) وظاهر قوله:(ضعه حيث أخذته): أنه قبل القسم؛ لأنه لو كان أخذه له بعد القسم لأمره أن يرده إلى من صار إليه في القسم.
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع) و (ج).
قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية.
رواه أحمد (1/ 185)، ومسلم (1748)(34)، وأبو داود (208)، والترمذي (3189).
ــ
وقوله تعالى: {قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} ؛ ظاهره إن حملنا الأنفال على الغنائم؛ أن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست مقسومة بين الغانمين. وبه قال ابن عباس وجماعة. ورأوا: أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَاعلَمُوا أَنَّمَا غَنِمتُم مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية، وظاهرها: أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين. وقد روي عن ابن عباس أيضًا: أنها محكمة، غير منسوخة، وأن للإمام أن ينفل من الغنائم ما شاء لمن شاء؛ لما يراه من المصلحة. وقيل: هي مخصوصة بما شذّ من المشركين إلى المسلمين من: عبدٍ، أو أمَةٍ، أو دابةٍ. وهو قول عطاء، والحسن. وقيل: المراد بها: أنفال السَّرايا. والأولى: أن الأنفال المذكورة في هذه الآية هي ما ينفله الإمام من الخمس؛ بدليل قوله تعالى: {وَاعلَمُوا أَنَّمَا غَنِمتُم مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} ولا يصح الحكم بالنسخ؛ إذ الجمع بين الآيتين ممكن، ومتى أمكن الجمع فهو أولى من النسخ (1)، باتفاق الأصوليين. وقال مجاهد في الآية: إنها محكمة، غير منسوخة، وأن المراد بالأنفال: ما ينفله الإمام من الخمس. وعلى هذا: فلا نفل إلا من الخمس، ولا يتعين الخمس إلا بعد قسمة الغنيمة خمسة أخماس، وهو المعروف من مذهب مالك، وقد روي عن مالك: أن الأنفال من خمس الخمس. وهو قول ابن المسيب، والشافعي، وأبي حنيفة، والطبري. وأجاز الشافعي النفل قبل إحراز الغنيمة، وبعدها. وهو قول أبي ثور، والأوزاعي، وأحمد، والحسن البصري.
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ} ؛ أي: أصلحوا فيما بينكم، وأطيعوا الله ورسوله فيما أمركم
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ز).
[1266]
وعَن ابنِ عُمَرَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً إِلَى نَجدٍ، فَخَرَجتُ فِيهَا، فَأَصَبنَا إِبِلًا وَغَنَمًا، فَبَلَغَت سُهمَانُنَا اثنَي عَشَرَ بَعِيرًا، اثنَي عَشَرَ بَعِيرًا، وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا بَعِيرًا.
رواه مسلم (1749)(37).
ــ
به من الرضا بما قسم لكم إن كنتم محققين إيمانكم. وهذا يدل على أنهم وقع فيما بينهم شنآنٌ ومنافرةٌ بسبب الغنيمة. ويدل على هذا: ما رواه أبو أمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال؟ فقال: فينا - أصحاب بدر - نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه علينا على بواء؛ أي: على سواء (1). وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: (من فعل كذا، فله كذا)، فتسارع الشبان، وثبت الشيوخ مع الرَّايات، فلما فتح لهم، جاء الشبان يطلبون ما جعل لهم، فقال لهم الأشياخ: لا تذهبون به دوننا، فقد كنَّا ردءًا لكم، فأنزل الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم} (2).
وقوله: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجد سرية) إلى قوله: (ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا بعيرًا)؛ هذه السرية خرجت من جيش بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجد، فلما غنمت قسم ما غنمت على الجيش والسرية، فكانت سهمان؛ كل واحد من الجيش والسَّرية اثني عشر بعيرًا، اثني عشر بعيرًا، ثم زيد أهل السَّرية بعيرًا بعيرًا، فكان لكل إنسان من أهل السَّرية ثلاثة عشر بعيرًا، ثلاثة عشر بعيرًا. بيّن ذلك ونصّ عليه أبو داود من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن نافع، عن ابن عمر (3)، ولهذا قال مالك، وعامة الفقهاء: إن السَّرية إذا خرجت من الجيش فما غنمته كان مقسومًا
(1) رواه أحمد (5/ 322)، والبيهقي (6/ 292 و 315 و 9/ 57)، والحاكم (2/ 136).
(2)
رواه أبو داود (2737 - 2739).
(3)
رواه أبو داود (2741).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بينها وبين الجيش. ثم إن رأى الإمام أن ينفلهم من الخمس جاز عند مالك، واستُحبّ عند غيره. وذهب الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد: إلى أن النفل من جملة الغنيمة بعد إخراج الخمس، وما بقي للجيش، وحديث ابن عمر يرد على هؤلاء، فإنه قال فيه: فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرًا، اثني عشر بعيرًا، ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا بعيرًا (1)
وظاهر مساق هذه الرواية: أن الذي قسَّم بينهم، ونفلهم، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين رجعوا إليه. وفي رواية مالك عن نافع:(ونُفِّلُوا بعيرًا بعيرًا)، ولم يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن رواية الليث عن نافع:(ونفلوا سوى ذلك بعيرًا بعيرًا، فلم يغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي كتاب أبي داود من حديث محمد بن إسحاق عن نافع قال: فأصبنا نعمًا كثيرًا، فنفلنا أميرنا بعيرًا بعيرًا، ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسم علينا غنيمتنا، فأصاب كل إنسان (2) منا اثنا (3) عشر بعيرًا، اثنا عشر بعيرًا، وما حاسَبَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالذي أعطانا صاحبنا، ولا عاب عليه ما صنع، فكان لكل رجل ثلاثة عشر بعيرًا بنفله (4). وهذا اضطراب في حديث ابن عمر، على أنه يمكن أن تحمل رواية من رفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه لما بلغه ذلك أجازه، وسوَّغه. والله تعالى أعلم. أو تكون رواية عبيد الله عن نافع في الرَّفع وهمًا، وبمقتضى رواية ابن إسحاق عن نافع قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد كما قدمناه آنفًا من مذهبهم، لكن محمد بن إسحاق كذبه مالك (5)، وضعفه غيره.
(1) رواه مالك في الموطأ (2/ 450).
(2)
في (ع): واحدٍ.
(3)
في (ع): اثني.
(4)
رواه أبو داود (2743).
(5)
انظر الأجوبة التي ذكرها ابن سيد الناس في عيون الأثر (1/ 63 - 67) في الرَّد عمّا =
[1267]
وعنه قَالَ: نَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَلًا سِوَى نَصِيبِنَا مِن الخُمسِ فَأَصَابَنِي شَارِفٌ. وَالشَّارِفُ: المُسِنُّ الكَبِيرُ.
رواه مسلم (1750)(38 و 39).
[1268]
وعنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَد كَانَ يُنَفِّلُ بَعضَ مَن يَبعَثُه مِن السَّرَايَا لِأَنفُسِهِم خَاصَّةً، سِوَى قَسمِ عَامَّةِ الجَيشِ،
ــ
وقوله: (ونفلنا رسول الله نفلًا سوى نصيبنا من الخمس)؛ هذا المجرور الذي هو (من الخمس) هو في موضع الصفة لـ (نفل)؛ يعني: أنه نفلهم نفلًا من الخمس، وليس في موضع الحال من (نصيبنا)؛ لأنه كان يلزم عليه أن يكون لهم نصيب في الخمس غير النفل، ولم ينقل هذا بوجه، ولا قاله أحدٌ فيما علمته.
و(الشارف): المسن الكبير من النُّوق.
وقوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفل بعض من يبعث من السَّرايا)؛ يدل: على أن ذلك ليس حتمًا واجبًا على الإمام، وإنما ذلك بحسب ما يظهر له من المصلحة والتنشيط كما يقوله مالك. وقد كره مالك أن يحرض الإمام العسكر بإعطاء جزء من الغنيمة قبل القتال؛ لما يخاف من فساد النية. وقد أجازه بعض السَّلف، وأجاز النخعي، وبعض العلماء أن ينفل السَّرية جميع ما غنمت. والكافة على خلافه.
= رُمي به ابن إسحاق من الكذب، وبخاصة من مالك، إذ كان قرينًا ومعاصرًا له. ورحم الله تعالى الذهبي حينما قال في ميزان الاعتدال (2/ 202): كلام النُّظراء والأقران ينبغي أن يُتأمَّل ويُتأَنَّى فيه.