الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(48) باب الإخلاص وحسن النية في الجهاد
[1371]
عن أبي مُوسَى الأَشعَرِيُّ: أَنَّ رَجُلًا أَعرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلمَغنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذكَرَ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَن فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَن قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي أَعلَى، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
ــ
وظاهره: أنه عاين منزلته في الجنة في تلك الحالة. ويحتملُ أن يقول ذلك محققًا لوعد الله ورسوله الحقّ الصدق، فصار كأنه عاين. والله تعالى أعلم.
(48)
ومن باب: الإخلاص وحسن النية في الجهاد
قوله صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله)؛ يعني بـ (كلمة الله): دين الإسلام. وأصله: أن الإسلامَ ظهر بكلام الله تعالى؛ الذي أظهره على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
ويُفهَمُ من هذا الحديث: اشتراط الإخلاص في الجهاد، وكذلك هو شرطٌ في جميع العبادات؛ لقوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} والإخلاص: مصدر من: أخلصت العسل وغيره: إذا صفيته، وأفردتُه من شوائب كدره؛ أي: خلصته منها. فالمخلِصُ في عباداته هو الذي يُخلصها من شوائب الشركِ والرياء. وذلك لا يتأتى له إلا بأن يكون الباعثُ له على عملها قصدَ التقرب إلى الله تعالى، وابتغاء ما عنده. فأما إذا كان الباعثُ عليها غير ذلك من أعراض الدُّنيا؛ فلا يكونُ عبادة، بل يكون مصيبة موبقة لصاحبها، فإما كفرٌ، وهو: الشرك الأكبر، وإما رياء، وهو: الشركُ الأصغر. ومصيرُ صاحبه إلى النار، كما جاء في حديث أبي هريرة في الثلاثة المذكورين فيه. هذا إذا كان الباعثُ على تلك
وفي رواية: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً؟ قَالَ: فَرَفَعَ رَأسَهُ إِلَيهِ، وَمَا رَفَعَ رَأسَهُ إِلَيهِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا فَقَالَ: مَن قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُليَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
رواه أحمد (4/ 392)، والبخاري (123)، ومسلم (1904)(149 و 151)، وأبو داود (2517)، والترمذي (1646)، والنسائي (6/ 23)، وابن ماجه (2783).
ــ
العبادة الغرضَ الدنيوي وحده، بحيث لو فُقِد ذلك الغرضُ لتُرِك العمل. فأما لو انبعث لتلك الحالة (1) لمجموع الباعثَينِ- باعث الدنيا وباعث الدين-؛ فإن كان باعثُ الدنيا أقوى، أو مساويًا ألحق القسم الأول في الحكم بإبطال ذلك عند أئمة هذا الشأن، وعليه يدل قولُه صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تبارك وتعالى:(مَن عَمِل عملًا أشركَ معي فيه غيري تركتُه وشريكه)(2). فأما لو كان باعثُ الدِّين أقوى؛ فقد حكم المحاسبي (3) رحمه الله بإبطال ذلك العمل؛ متمسكًا بالحديث المتقدِّم، وبما في معناه، وخالفه في ذلك الجمهور، وقالوا بصحة ذلك العمل، وهو الأقدم في فروع مالك. ويُستدلُ على هذا بقوله صلى الله عليه وسلم:(إن من خير معايش الناس رجلا ممسكا فرسه في سبيل الله)(4)، فجعل الجهاد مما يصح أن يُتخذ للمعاش، ومن ضرورة ذلك أن يكونَ مقصودًا، لكن لما كان باعثُ الدِّين على الجهاد هو الأقوى والأغلب، كان ذلك الغرض مُلغى، فيكون معفوًّا عنه؛ كما إذا توضأ قاصِدًا رَفع الحدث والتبرُّد، فأما لو تفرَّد باعثُ الدِّين بالعمل، ثم عرض باعث الدنيا في أثناء العمل فأولى بالصحة. وللكلام في هذا موضع آخر، وما ذكرناه كافٍ هنا.
(1) في (ج 2): العبادة.
(2)
رواه أحمد (2/ 301 و 435).
(3)
هو: الحارث بن أسد المحاسبي، من أكابر الصوفية، كان عالمًا بالأصول والمعاملات، توفي سنة (243 هـ).
(4)
رواه مسلم (1889).
[1372]
وعَن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا الأَعمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامرِئٍ مَا نَوَى، فَمَن كَانَت هِجرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَن كَانَت هِجرَتُهُ لِدُنيَا يُصِيبُهَا أَو امرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ.
رواه أحمد (1/ 25)، والبخاري (1)، ومسلم (1907)، وأبو داود (2201)، والترمذي (1647)، والنسائي (1/ 59 - 60).
ــ
وقوله: (فرفع رأسَه إليه، وما رفع رأسه إليه إلا أنه كان قائمًا)؛ فيه دليل على جواز سؤال القائم السائل للعالم وهو قاعد؛ إذا دعت إلى ذلك حاجة، أو عذر، وإلا فالأولى للسَّائل الجلوسُ، والتثبُّت؛ كما في حديث جبريل (1)، حيث سأل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (إنما الأعمالُ بالنيَّات)؛ أي: الأعمال المتقرَّب بها إلى الله تعالى، بدليل بقية الحديث. وهذا الحديث بحكم عمومه يتناولُ جميعَ أعمال الطَّاعات، فيدخل في ذلك الوضوء، والغُسل، وغير ذلك. فيكون حُجَّة على مَن خالف في ذلك، كما تقدَّم في الطهارة. ووجه التمسُّك به: أنه عموم مؤكَّد بـ (إنَّما) الحاصرة، فصار في القوة كقوله: لا عمل إلا بنية، فصار ظاهرًا في نفي الإجزاء والاعتداد بعملٍ لا نية له. ولا يقال: فهو مخصصٍ بدليل إخراج العبادات المعقولة المعنى، كغسل الجنابة وما في معناها؛ لأنا نقول: اللفظُ العام محمول على عمومه بعد إخراج المخصص، كما قد تقدَّم غير ما مرَّةٍ.
وقوله: (وإنَّما لامرئٍ ما نوى)؛ تحقيق لاشتراط النية، والإخلاص في الأعمال. وقد زاده وضوحًا قوله:(فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله)؛ أي: كانت هجرتُه مقبولةً عند الله تعالى، وثوابها عليه، (ومن
(1) كذا في (ع)، وفي (ج) و (ج 2): كما فعل جبريل.
[1373]
وعَن جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ فَقَالَ: إِنَّ بِالمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرتُم مَسِيرة، وَلَا قَطَعتُم وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُم، حَبَسَهُم المَرَضُ.
رواه مسلم (1911).
* * *
ــ
كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوَّجها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه)؛ أي: ليس له من هجرته إلا ما قصده. وهذا كما قال في الحديث الآخر: (مَن أتى المسجد لشيءٍ فهو حظه)(1). وإنما ذُكِرَت في الحديث الهجرةُ؛ لأنه جَرَى سَبَبُها، وذلك: أنَّ رجلًا هاجر إلى المدينة ليتزوَّج امرأةً بها، تُسمَّى: أم قيس، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، وسُمِّي الرجل: مهاجر أم قيس. على ما ذكر أئمتنا (2). وظاهرُ حال هذا الرجل بسبب هذه الإضافة التي غلبت على اسمه أنه لم تكن له في الهجرةِ الشرعية رغبة، ولا نية فسلبها، ونسب إلى ما نواه، وقَصَده. والله تعالى أعلم.
وقوله: (إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا، ولا قَطَعتُم واديًا إلا كانوا معكم، حَبَسَهُمُ المرض)؛ يدل على ما ذكرنا: من أنَّ الناوي لأعمال البرِّ؛ الصادق النية فيها؛ إذا منعه من ذلك عذر كان له مثلُ أجر المباشر مضاعفًا، كما قدَّمناه. وقد دلَّ عليه من الحديث ذكر قطع الوادي، والمسير، فإن هذا إشارة إلى قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُم لا يُصِيبُهُم ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله تعالى: {وَلا يَقطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُم لِيَجزِيَهُمُ اللَّهُ أَحسَنَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ} ولما كان القاعدون لأجل العُذر قد صحَّت نيَتهم في مباشرة
(1) رواه أبو داود (472)، والبيهقي (2 ج 447 و 3/ 66).
(2)
قال ابن رجب في كتابه "جامع العلوم والحكم"(ص 12): اشتهر أن قصة مهاجر أم قيىس؛ كانت سبب قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم "من كانت هجرته. . ." وذكر ذلك كثير من المتأخرين في كتبهم، ولم نر لذلك أصلًا يَصِحُّ.