الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(6) باب ما جاء في الصيد، وفي لحمه للمحرم
[1063]
عَن ابنِ عَبَّاسٍ، عَن الصَّعبِ بنِ جَثَّامَةَ اللَّيثِيِّ أَنَّهُ أَهدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحشِيًّا وَهُوَ بِالأَبوَاءِ أَو بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا فِي وَجهِي، قَالَ: إِنَّا لَم نَردُدهُ عَلَيكَ
ــ
(6)
ومن باب: ما جاء في الصيد ولحمه للمحرم
(الأبواء) - بفتح الهمزة، والمد -: بَرِّيَّة من عمل الفُرع، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً. و (وَدَان) بفتح الواو، وكذلك بينهما نحو ثمانية أميال بقرب من الجحفة.
و(السُّقيا) قرية جامعة هناك، بينها وبين الفُرع مما يلي الجحفة تسعة عشر ميلاً. و (تعهن) بفتح التاء وكسرها، وسكون العين. وقد سمع من العرب من يقول:(بتُعَهِن) فيضم التاء، ويفتح العين، ويكسر الهاء. وروايتنا التقييد الأول. وهي: عين ماء على ميل من (السقيا) بالقاف لا بالفاء، وهو: وادي العباديد، على ثلاثة مراحل من المدينة.
و(غيقة) بالغين معجمة مفتوحة، وبالقاف بينهما ياء، باثنتين من تحتها: موضع من بلاد بني غفار، بين مكة والمدينة. وقيل: هو قليب ماء لبني ثعلبة.
وقوله: (إنا لم نردده عليك)، المحدِّثون يقيدون (لم نرده) بفتح الدال المضاعفة المجزومة، وإن كان متصلاً بهاء الضمير (1) المضمومة. وقيده المحققون: بضم الدال مراعاة للواو المتولدة عن ضمها لها، ولم يحفلوا بالهاء لخفائها، وكأنهم قالوا:(ردوا)؛ كما فتحوها مع هاء المؤنث مراعاة للألف، وكأنهم
(1) في (هـ): (المذكر) بدل (الضمير).
إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ: أهدى الصعب بن جثامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل حمار وحشي.
وفي أخرى: عجز حمار وحشي يقطر دما.
رواه أحمد (4/ 37 - 38)، والبخاري (1825)، ومسلم (1193)(50) و (1194)(54)، والنسائي (5/ 183 - 184)، وابن ماجه (3090).
ــ
قالوا: (ردًّا)، وهذا مذهب سيبويه، وأبي علي الفارسي، وأهل التحقيق من أهل اللسان.
وقوله: (إلا أنَّا حرم) بفتح (أنَّا) على أنه تعدَّى إليه الفعل بحرف التعليل.
ولا خلاف في تحريم الصيد على المحرم. وفي تحريم ما صيد من أجله عليه. وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيكُم صَيدُ البَرِّ مَا دُمتُم حُرُمًا} وقوله: {لا تَقتُلُوا الصَّيدَ وَأَنتُم حُرُمٌ} ورد النبي صلى الله عليه وسلم على الصَّعب هذا الصيد: إنما كان لأنه خاف أن يكون صاده من أجله، ألا تراه صلى الله عليه وسلم كيف قَبِل حمار البَهزِيِّ (1) حين قال: هو لكم يا رسول الله! فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقُسمِّ بين الرفاق (2).
قال أبو محمد الأصيلي: إنما قَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم حمار البهزي؛ لأنه كان مكتسبًا بالصيد، فحمله على عادته، ورد حمار الصَّعب لظنه أنه صاده من أجله.
فإن قيل: فهذا يشكل على مذهب مالك؛ إذ يحكم: بأن ما صيد لأجل محرم لا يحل أكله، وهو ميتة عنده، ولم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم، بل سوَّغه لهم بتركه في أيديهم،
(1) هو زيد بن كعب، صحابي، له حديث واحد عند النسائي.
(2)
رواه النسائي (5/ 183).
[1064]
وعنه وقَالَ لزَيدُ بنُ أَرقَمَ يَستَذكِرُهُ، كَيفَ أَخبَرتَنِي عَن لَحمِ صَيدٍ أُهدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَرَامٌ؟ قَالَ: قَالَ: أُهدِيَ لَهُ عُضوٌ مِن لَحمِ صَيدٍ فَرَدَّهُ فَقَالَ: إِنَّا لَا نَأكُلُهُ إِنَّا حُرُمٌ.
رواه أحمد (4/ 367 و 374)، ومسلم (1195)، وأبو داود (1850)، والنسائي (5/ 184).
ــ
وإقرارهم عليه! فالجواب: إن ذلك الحكم إنما يلزم على مذهبه فيما تحقق أنه صِيد لأجل المحرم، وليس في هذا الحديث ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع بذلك، ولا ظنه، وإنما امتنع من ذلك فيما يظهر ورعًا؛ كما قال في التمرة:(لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها)(1)، والله أعلم.
وقد أجاز غير واحد من العلماء أكل ما صاده حلال لمحرم لغير ذلك المحرم؛ منهم: عثمان رضي الله عنه.
واختلفوا في حمار الصعب: هل أهداه للنبي صلى الله عليه وسلم حيًّا أم ميتًا؟ وقد بوَّب البخاري على هذا الحديث ما يدل: على أنه فهم من الحديث أنه كان حيًّا، وعلى هذا الفهم يستدل به: على أن المحرم يرسل ما بيده من صيد؛ لأنه لم يسوغ لنفسه مُلكه لأجل الإحرام، وفيه أبواب من أحكام الهبات لا تخفى على متأمل.
قلت: والروايات الأخر تدل على أنه كان ميتًا، وأنه أتاه بعضو منه. ويصح الجمع بين هذه الروايات المختلفة؛ إما على القول: بأنه ميت، فإنه جاء بالحمار ميتًا فوضعه بقرب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قطع منه ذلك العضو، فأتاه به، فصدق اللفظان. أو يكون أطلق اسم الحمار، وهو يريد بعضه، وهذا سائغ، وهو من باب التوسع والتجوز.
وأما إن تنزلنا على أن الحمار كان حيًّا، فيكون قد أتاه به، فلما رده عليه، وأقره
(1) رواه البخاري (2055)، ومسلم (1071)، وأبو داود (1651 و 1652).
[1065]
وَعَن عَبدُ اللَّهِ بنُ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: انطَلَقَ أَبِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الحُدَيبِيَةِ فَأَحرَمَ أَصحَابُهُ وَلَم يُحرِم وَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَدُوًّا بِغَيقَةَ فَانطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَبَينَمَا أَنَا مَعَ أَصحَابِهِ يَضحَكُ بَعضُهُم إِلَيَّ، إِذ نَظَرتُ فَإِذَا أَنَا بِحِمَارِ وَحشٍ، فَحَمَلتُ عَلَيهِ فَطَعَنتُهُ فَأَثبَتُّهُ، فَاستَعَنتُهُم فَأَبَوا أَن يُعِينُونِي، فَأَكَلنَا مِن لَحمِهِا، وَخَشِينَا
ــ
بيده ذكاه، ثم أتاه منه بالعضو المذكور، ولعل الصعب ظن أنه إنما رده عليه لمعنى يخص الحمار بجملته، فلما جاءه بجزئه أعلمه بامتناعه أن حكم الجزء من الصيد كحكم الصيد، لا يحل للمحرم قبوله، ولا تملُّكه. وإنما احتجنا إلى هذه التكلفات لنرفع الاضطراب اللازم من تلك الروايات المختلفة على طريقتنا في روم الجمع بين الروايات المختلفة، فإنه الأحسن إذا أمكن، والله أعلم.
وقوله في حديث أبي قتادة: (إن أصحابه أحرموا، ولم يحرم هو)، قيل في سبب بقاء أبي قتادة غير محرم أقوال:
أحدها: أنه لم تكن وُقِّتت المواقيت، وفيه بُعد.
وثانيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في أصحابه لكشف عدوٍّ لهم بجهة السَّاحل، على ما ذكره مسلم.
وثالثها: أن أهل المدينة أرسلوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلمه: أن بعض العرب عزم على غزو المدينة.
وقوله: (فاستعنتهم، فأبوا أن يعينوني)؛ دليل على أبي حنيفة؛ إذ يرى: أن المعونة لا تؤثر إلا أن يكون الصيد لا يصح دونها. وامتناعهم من المعونة مطلقًا، ومن مناولة السَّوط ترد عليه، بل في الرواية الآتية قوله صلى الله عليه وسلم: (أمنكم أحدٌ أمره أن
أَن نُقتَطَعَ فَانطَلَقتُ أَطلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرفَعُ فَرَسِي شَأوًا وَأَسِيرُ شَأوًا،
ــ
يحمل عليها، أو أشار إليها؟ ) قالوا: لا. قال: (فكلوا)، ظاهره: أنه لو أعانه أحدٌ لمنعهم من أكلها.
وقد اختلف في وجوب الجزاء على المحرم الدَّال للحلال، فقال مالك، والشافعي، وأبو ثور: لا شيء عليه. وقال الكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وجماعة من الصحابة، والتابعين: عليه الجزاء. وكذلك اختلفوا في المحرم إذا دلَّ محرمًا آخر؛ فذهب الكوفيون، وأشهب من أصحابنا: إلى أن على كل واحد منهم جزاء. وقال مالك، والشافعي وأبو ثور: الجزاء على المحرم القاتل. وكذلك الخلاف فيما لو أعانه بالرمح، أو بالسَّوط، وبأي معونة كانت. وقال بعض شيوخنا: لو أشار إليه ليصيد؛ لكان دالاًّ، ويجري فيه الخلاف المتقدم.
وقوله: (أرفع فرسي شأوًا، وأسير شأوًا)؛ أي: أرفع في سيره، وأجريه. و (الشأو): الطَّلق (1).
وقوله: (خشينا أن نقتطع)؛ أي: خفنا أن يحال بيننا وبينهم، ويقطع بنا عنهم.
وقوله: (أصدت)؛ أصله: أصطدت، فأدغمت الطاء في الصاد لتقاربهما.
وقوله صلى الله عليه وسلم للقوم: (كلوا) وهم محرمون، وأكله منه وهو محرم؛ دليل على من منع المحرم من أكل لحم الصيد. وهو مروي عن عطاء، وابن عبَّاس، وجماعة من السَّلف، وهو قول سفيان الثوري، وإسحاق. وذكر نحوه عن مالك والليث.
وقوله: (فجعل بعضهم يضحك إلى بعض)؛ لم يكن ضحكهم لينبهوه على
(1)"الطَّلَق": الشوط الواحد من سباق الخيل.
فَلَقِيتُ رَجُلاً مِن بَنِي غِفَارٍ فِي جَوفِ اللَّيلِ، فَقُلتُ: أَينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: تَرَكتُهُ بِتَعهِنَ، وَهُوَ قَائِلٌ السُّقيَا، فَلَحِقتُهُ، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَصحَابَكَ يَقرَءُونَ عَلَيكَ السَّلَامَ وَرَحمَةَ اللَّهِ، وَإِنَّهُم قَد خَشُوا أَن يُقتَطَعُوا دُونَكَ انتَظِرهُم فَانتَظَرَهُم، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَصَدتُ وَمَعِي مِنهُ فَاضِلَةٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلقَومِ: كُلُوا وَهُم مُحرِمُونَ.
رواه أحمد (5/ 190 و 301)، والبخاري (1821)، ومسلم (1196)(59)، والنسائي (5/ 186)، وابن ماجه (3093).
[1066]
وَعَن أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعضِ طَرِيقِ مَكَّةَ تَخَلَّفَ مَعَ أَصحَابٍ لَهُ مُحرِمِينَ، وَهُوَ غَيرُ مُحرِمٍ فَرَأَى حِمَارًا وَحشِيًّا، فَاستَوَى عَلَى فَرَسِهِ، فَسَأَلَ أَصحَابَهُ أَن يُنَاوِلُوهُ سَوطَهُ فَأَبَوا فَسَأَلَهُم رُمحَهُ فَأَبَوا عَلَيهِ، فَأَخَذَهُ، ثُمَّ شَدَّ عَلَى الحِمَارِ، فَأَكَلَ مِنهُ بَعضُ أَصحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَى بَعضُهُم، فَأَدرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلُوهُ عَن ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ طُعمَةٌ أَطعَمَكُمُوهَا اللَّهُ.
ــ
الصيد، وإنما كان - والله أعلم - تعجبًا من إتيان هذا الصيد، وتأتي صائده الحلال له ولم يفطن له. وأما لو ضحك منبهًا: فقال الداودي: لم يمنع من أكله.
قلت: ولا بُعد في أن يقال: إن ذلك كالإشارة؛ إذ قد حصل منه ما يحصل من المشير من التنبيه.
وقوله: (تركته بتعهن)، قائل السُّقيا. قائل: اسم فاعل من القول، ومن القائلة أيضًا، والأول هو المراد هنا، والسقيا: مفعول بفعل مضمر، كأنه قال: اقصدوا السقيا.
وَفِي رِوَايَةٍ: فقال: هُوَ حَلَالٌ فَكُلُوهُ. وفي أخرى: فقال: هَل مَعَكُم مِن لَحمِهِ شَيءٌ؟ . فقَالُوا: مَعَنَا رِجلُهُ قَالَ: فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَهَا.
وفي أخرى: أَمِنكُم أَحَدٌ أَمَرَهُ أَن يَحمِلَ عَلَيهَا، أَو أَشَارَ إِلَيهَا؟ قَالُوا لَا. قال: فكلوا ما بقي من لحمها.
رواه أحمد (5/ 301)، والبخاري (2914) ومسلم (1196)(56 و 57 و 58 و 63)، وأبو داود (1852)، والنسائي (5/ 182).
[1067]
وعن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عُثمَانَ التَّيمِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ طَلحَةَ بنِ عُبَيدِ اللَّهِ، وَنَحنُ حُرُمٌ فَأُهدِيَ لَهُ طَيرٌ، وَطَلحَةُ رَاقِدٌ فَمِنَّا مَن تَوَرَّعَ، فَلَمَّا استَيقَظَ طَلحَةُ وَفَّقَ مَن أَكَلَهُ، وَقَالَ: أَكَلنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رواه أحمد (1/ 162)، ومسلم (1197)، والنسائي (5/ 182).
* * *
ــ
وقوله: (هل معكم من لحمه شيء)، وأكله لما أعطوه منه؛ كل ذلك تطييب لقلوبهم، وتسكين لنفرة من نفر منهم، وإبانة لحلِّيته بأقصى الممكن.
وقول عبد الرحمن التيمي: (فمنا من تورع)؛ أي: كفَّ ورعا؛ أي: لم يتوقف جازمًا بالمنع، ولكنه تردد وتخوَّف، فتورع. والورع، والرعة: الانكفاف عما يريب.
وقوله: (فلما استيقظ طلحة وفَّق من أكله)؛ أي: صوبه، وقال:(هو موفق مسدد).
وقوله: (أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: ونحن محرمون.