الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(57) باب تحريم مكة وصيدها وشجرها ولقطتها
[1212]
عَن ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَومَ الفَتحِ فَتحِ مَكَّةَ: لَا هِجرَةَ، وَلَكِن جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا استُنفِرتُم فَانفِرُوا. وَقَالَ يَومَ الفَتحِ فَتحِ مَكَّةَ: إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَومَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرمَةِ اللَّهِ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ،
ــ
(57)
ومن باب: تحريم مكة
قوله لا هجرة بعد الفتح، هذا رفع لما كان تقرَّر من وجوب الهجرة إلى المدينة على أهل مكة باتفاق وعلى غيرهم بخلاف، ولم يتعرَّض هذا العموم لنفي هجرة الرجل بدينه؛ إذ تلك الهجرة ثابتة إلى يوم القيامة، وإنما رفع حكم الهجرة يوم الفتح لكثرة ناصري الإسلام ولظهور الدِّين وأمن الفتنة عليه.
وقوله ولكن جهاد ونية دليل على بقاء فرض الجهاد وتأبيده خلافًا لمن أنكر فرضيته على ما يأتي.
وقوله وإذا استنفرتم فانفروا؛ أي: طَلَب منكم الإمام النَّفير. وهو: الخروج إلى الغزو، فحينئذ يتعيَّن الغزو على من استُنفر بلا خلاف.
وقوله إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، معنى حرَّمه الله أي حرَّم على غير المحرم دخوله إلا أن يُحرم. ويجري هذا مجرى قوله:{حُرِّمَت عَلَيكُم أُمَّهَاتُكُم} ؛ أي: وطؤهن. و {حَرَّمَ عَلَيكُمُ المَيتَةَ} ؛ أي: أكلها. فَعُرف الاستعمال دلَّ على تعيين المحذوف. وقد دلَّ على صحة هذا المعنى
وَإِنَّهُ لَم يَحِلَّ القِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبلِي،
ــ
اعتذاره صلى الله عليه وسلم عن دخول مكة غير محرم مقاتلًا بقوله إنها لم تحل لي إلا ساعة من نهار. . . الحديث، وبهذا أخذ مالك والشافعي - في أحد قوليهما - وكثير من أصحابهما، فقالوا: لا يجوز لأحدٍ أن يدخل مكة إلا محرمًا، إلا أن يكون ممن يكثر التكرار إليها كالحطابين ونحوهم. وقد أجاز دخولها لغير المحرم ابن شهاب والحسن والقاسم، وروي عن مالك والشافعي والليث، وقال بذلك أبو حنيفة إلا لمن منزله وراء المواقيت، فلا يدخلها إلا بإحرام، واتفق الكل على أن من أراد الحج أو العمرة أنه لا يدخلها إلا محرمًا.
ثم اختلف أهل القول الأول فيمن دخلها غير محرم؛ فقال مالك وأبو ثور والشافعي أنه لا دم عليه، وقال الثوري وعطاء والحسن بن حييٍّ: يلزمه حج أو عمرة - ونحوه قال أبو حنيفة فيمن منزله وراء المواقيت.
ومتمسَّك من قال بجواز دخولها لغير المحرم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث المواقيت المتقدِّم: هن لهم ولكلِّ آتٍ أتى عليهنَّ من غيرهنَّ ممن أراد الحج أو العمرة) (1)، وتأولوا الحديث المتقدم بأن قالوا: إنما اعتذر صلى الله عليه وسلم عن دخوله مكة مقاتلًا كما قال: (فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. . .) الحديث.
قال القاضي عياض: لم يختلف في دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة أنه كان حلالًا؛ لدخوله والمغفر على رأسه، ولأنه دخلها مُحاربًا حاملًا للسلاح هو وأصحابه. ولم يختلفوا في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وكذلك لم يختلفوا في أن من دخلها لحرب أو لشيء أنه لا يحل له أن يدخلها حلالًا.
وقوله وإنه لم يحل القتال لأحدٍ قبلي، الضمير في إنَّه هو ضمير الأمر والشأن، وظاهر هذا أن حكم الله تعالى كان في مكة ألا يقاتل أهلها ويُؤمن من
(1) سبق تخريجه برقم (1050).
وَلَم يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِن نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرمَةِ اللَّهِ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، لَا يُعضَدُ شَوكُهُ،
ــ
استجار بها ولا يتعرض له، وهو أحد أقوال المفسرين في قوله تعالى:{وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وهو قول قتادة وغيره. قالوا: هو آمن من الغارات. وهو ظاهر قوله تعالى: {أَوَلَم يَرَوا أَنَّا جَعَلنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِن حَولِهِم} وهو منقول من عادة العرب في احترامهم مكة، ومن كتب التواريخ.
وقوله ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرامٌ، الضمير في يحل هو، وهو يعودُ على القتال قطعًا كما يدل عليه مساقه، فيلزم منه تحريم القتال فيه مطلقًا، سواء كان ساكنه مستحقًا للقتال أو لم يكن، وهو الذي يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ولا يحل لأحد بعدي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار.
وقوله فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وهذا نصٌّ على الخصوصية واعتذار منه عما أُبيح له من ذلك، مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتل والقتال لصدِّهم عنه وإخراجهم أهله منه وكفرهم بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي فهمه أبو شريح من هذا الحديث. وقد قال بذلك غير واحد من أهل العلم؛ منهم. . . (1)، غير أن هذا يعارضه ما جاء في حديث أبي شريح من قول عمرو بن سعيد على ما يأتي.
وقوله لا يعضد شوكه، وفي حديث أبي هريرة لا يختبط شوكه، ولا يعضد شجره، يُعضد: يقطع. والمِعضَد: الآلة التي يقطع بها. والخَبَط: ضَرب أوراق الشجر بالعصي لعلف المواشي. يقال: خبط واختبط. والمصدر منه:
(1) في الأصول: بياض بمقدار نصف سطر.
وَلَا يُنَفَّرُ صَيدهُ، وَلَا يَلتَقِطُ لقطته إِلَّا مَن عَرَّفَهَا، وَلَا يُختَلَى خَلَاهَا. فَقَالَ
ــ
خبطًا - بسكون الباء، والاسم بتحريكها.
و(الخلى) مقصور، هو الرطب من الكلأ مقصورًا مهموزًا. والحشيش: هو اليابس منه، والكلأ يقال على الخلى والحشيش. والشجر: ما كان على ساقٍ. وفي بعض طرقه شجراؤها وهو جنس الشجر، وهي العضاه أيضًا في الحديث الآخر. والعِضاه من شجر البادية: كل شجر له شوك. ومنه ما يسمى بـ (الكَنَهبُل) و (السَّيَال)، ولهذا الحديث خصَّ الفقهاء مطلق الشجر المنهي عن قطعه مما يُنبته الله تعالى من غير صُنع آدمي اتفاقًا منهم، فأما ما ينبت بمعالجة آدمي فيجوز قطعه.
ثم اختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول؛ فقال مالك: لا جزاءَ فيه لعدم ما يدل على ذلك. وقال الشافعي وأبو حنيفة: فيه الجزاء - فعند أبي حنيفة تؤخذ قيمة ما قطع فيشترى بها هدي، وعند الشافعي في الدوحة - وهي الشجرة العظيمة - بقرة وفيما دونها شاة. وأما قطع العشب للرعي فمنع ذلك أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وأجازه غيرهما.
وقوله ولا ينفر صيده؛ أي: لا يُهاج عن حاله ولا يُعرَض له. قال عكرمة: هو أن ينحيه من الظل إلى الشمس - وقد تقدَّم القول فيه.
وقوله ولا يلتقط لُقَطَته إلا منشدٌ، اتفق رواة المحدثين على ضمِّ اللام وفتح القاف من اللقطة هنا؛ أرادوا به الشيء الملتقط، وليس كذلك عند أهل اللسان، قال الخليل: اللقطة بفتح القاف اسم للذي يَلتقط، وبسكونها لما يُلتقط. قال الأزهري: هذا قياس اللغة؛ لأن (فُعَلَةٌ) في كلامهم جاء فاعلًا كالهُزَأة للذي يهزأ بالناس، وجاء مفعولًا كالهزأة للذي يهزأ به الناس، إلا أن الرواة أجمعوا على أن اللقطة الشيء الملتقط. و (المنشد): هو المعرِّف. و (الناشد): هو الطالب والباغي، كما قال:
أنشدوا الباغي يُحِبُّ الوُجدَان (1)
(1)"الباغي": الذي يطلب الشيء الضال. و"الوجدان": الاهتداء إلى الضالة ووجودها.
العَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا الإِذخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَينِهِم وَلِبُيُوتِهِم! فَقَالَ: إِلَّا الإِذخِرَ.
رواه أحمد (1/ 226)، والبخاري (1834)، ومسلم (1353)، وأبو داود (2480)، والترمذي (1590)، والنسائي (7/ 146).
ــ
وقال الآخر:
إصاخَة النَّاشِدِ للمُنشِدِ
يقال: نشدت الضالة طلبتها، وأنشدتها عَرَّفتها. وأصل الإنشاد الصوت، ومنه إنشاد الشعر. وقد أفاد ظاهر هذا الحديث وما في معناه أن للقطة مكة مزية على لقطة غيرها، لكن اختلف العلماء في أي شيء تلك المزية؟ فقالت طائفة: هي أنها لا تحل للملتقط بوجه من الوجوه، ولا يزال يعرفها (1) دائمًا. وممن ذهب إلى هذا: أبو عبيد، والشافعي، وابن مهدي، والداودي، والباجي، وابن العربي من أصحابنا، ويعتضدون بنهيه صلى الله عليه وسلم عن لقطة الحاج. وقالت طائفة أخرى: إن المزية هي أنها لا يحل التقاطها إلا إن سمع من ينشدها، فيأخذها ويرفعها له. وذهب مالك في المشهور عنه إلى أن المزية أنها هي في زيادة التعريف والمبالغة فيها، وحكمها وحكم غيرها من البلاد سواء، وسيأتي بيان أحكامها، والقول الأول أظهر من الأحاديث المذكورة في هذا الباب.
وقد فسَّر بعضهم المنشد بالطالب، يعني به ربَّها؛ أي لا تحل إلا له.
ويرجع هذا إلى القول الأول، وقد تقدم أن المنشد هو المعرِّف على ما قال أبو عبيد وغيره.
و(الإذخر): هو نبت له رائحة طيبة معروفة. وفي قوله صلى الله عليه وسلم في جواب
(1) في (ع): تعريفها.
[1213]
وَعَن أَبِي شُرَيحٍ العَدَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمرِو بنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبعَثُ البُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائذَن لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أُحَدِّثكَ قَولًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الغَدَ مِن يَومِ الفَتحِ، سَمِعَتهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلبِي، وَأَبصَرَتهُ عَينَايَ، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ:
ــ
العباس وقد سأله عن الإذخر إلا الإذخر دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فُوِّضت إليه أحكام فكان يحكم فيها باجتهاده، واستيفاء المسألة في الأصول. وقد يورد على هذا أن يقال: إذا كانت مكة مما حرمها الله ولم يحرمها الناس، فكيف لأحدٍ أن يحكم بحلِّيَّة شيء منها وقد حرَّمه الله؟ والجواب أن الذي حرَّمه الله هو ما عدا المستثنى جملة؛ لأنه لما جعل لنبيه التخصيص مع علمه بأنه يخصّص كذا، فالمحكوم به لله تعالى هو ما عدا ذلك المخصَّص، والله تعالى أعلم.
وأبو شريح: هو خويلد بن عمرو، وكذلك سَمَّاه البخاري ومسلم، وقال محمد بن سعد: خويلد بن صخر بن عبد العزيز. وقال أبو بكر البرقاني: اسمه كعب.
وقوله وهو يبعث البعوث إلى مكة، البعوث جمع بعث، وهي الجيوش أو السرايا، ويعني بها هنا الجيوش التي وجها (1) يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن الزبير، وذلك أنه لما توفي معاوية وجَّه يزيد (2) إلى عبد الله يستدعي منه بيعته، فخرج إلى مكة ممتنعًا من بيعته يحرض الناس على بني أمية (3)، فغضب يزيد، وأرسل إلى مكة يأمر واليها يحيى بن حكيم بأخذ بيعة عبد الله، فبايعه وأرسل إلى يزيد ببيعته، فقال: لا أقبل حتى يُؤتى به في وثاقٍ! فأبى
(1) في (ل) و (هـ): سيَّرها.
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
(3)
زيادة من (ع).
إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَم يُحَرِّمهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامرِئٍ يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ أَن يَسفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِن أَحَدٌ رَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَم يَأذَن لَكُم، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِن نَهَارٍ، وَقَد عَادَت حُرمَتُهَا اليَومَ كَحُرمَتِهَا بِالأَمسِ، وَليُبَلِّغ الشَّاهِدُ الغَائِبَ. فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيحٍ: مَا قَالَ لك عَمرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعلَمُ بِذَلِكَ مِنكَ يَا أَبَا شُرَيحٍ، إِنَّ الحَرَمَ لَا يُعِيدُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِخَربَةٍ.
رواه أحمد (4/ 31)، والبخاريُّ (1832)، ومسلم (1354).
ــ
ابن الزبير وقال: أنا عائذٌ بالبيت. فأبى يزيد، وكتب يزيد إلى عمرو بن سعيد أن يوجه إليه جندًا، فبعث إليه هذه البعوث.
وقوله إن الله حرَّم مكة، ولم يحرمها الناس؛ يعني أنه حرَّمها ابتداءً من غير سبب يُعزى إلى أحدٍ ولا مقدمة، ولا لأحد فيه مدخل؛ لا نبي ولا عالم ولا مجتهد. وأكد ذلك المعنى بقوله ولم يحرمها الناس، لا يقال: فهذا يعارضه قوله في الحديث الآخر اللهم إن إبراهيم حرَّم مكة، وإني أحرِّم المدينة (1)؛ لأنا نقول: إنما نسب الحكم هنا لإبراهيم لأنه مبلغه، وكذلك نسبته لنبينا صلى الله عليه وسلم، كما قد ينسب الحكم للقاضي لأنه مُنَفّذُه، والحكم لله العلي الكبير بحكم الأصالة والحقيقة.
وقول عمرو بن سعيد إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًا بدم، ولا فارا بِخَربة، روايتنا بِخَربة بفتح الخاء، وهي المشهورة الصحيحة، وضبطه الأصيلي بالضم، وكذلك قاله الخليل، وفُسِّرت بالسرقة وبالفساد في الأرض. والخارب:
(1) رواه الترمذي (3918)، ومالك في الموطأ (2/ 889).
[1214]
وعن أَبَي هُرَيرَةَ قال: إِنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا مِن بَنِي لَيثٍ عَامَ فَتحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنهُم قَتَلُوهُ، فَأُخبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَخَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَن مَكَّةَ الفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيهَا رَسُولَهُ وَالمُؤمِنِينَ، أَلَا وَإِنَّهَا لَم تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبلِي، وَلَن تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعدِي، أَلَا وَإِنَّهَا أُحِلَّت لِي سَاعَةً مِن النَّهَارِ، أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لَا يُخبَطُ
ــ
اللص المفسد، وقيل: سارق الإبل خاصة. قال أبو الفرج بن الجوزي (1): انعقد الإجماع على أن من جنى في الحرم يقاد منه فيه ولا يؤمن؛ لأنه هَتك حرمة الحرم ورد الأمان. واختلف فيمن ارتكب جناية خارج الحرم ثم لجأ إليه؛ فروي عن أبي حنيفة وأحمد أنه لا يقام عليه الحد فيه ويُلجأ إلى الخروج إلى الحِل، ويُمنع المعاملة والمبايعة حتى يضطر إلى الخروج، فيخرج إلى الحِل فيقام عليه الحد فيه.
وقول عمرو بن سعيد لأبي شريح أنا أعلم بذلك منك ليس بصحيح للَّذي تمسك به أبو شريح، ولما في حديث ابن عباس كما قدمناه، وحاصل قول عمرو أنه تأويل غير معضود بدليل.
وقوله إن الله حبس عن مكة الفيل؛ يعني به فيل أبرهة الأشرم الحبشي الذي قصَد خراب الكعبة، فلمَّا وصل إلى ذي المجاز - سوق للعرب قريب من مكة - عبَّأ فِيلَه وجهَّزه إلى مكة، فلمَّا استقبل الفيل مكة رزم؛ أي أقام وثبت، فاحتالوا عليه بكل حيلة فلم يقدروا عليه، واستقبلوا به جهة مكة فامتنع، فلم يزالوا به هكذا حتى رماهم الله بالحجارة التي أرسل الطير بها على ما هو مذكور في السِّير وفي كتب التفسير.
(1) في الأصول: أبو الفرج الجوزي.
شَوكُهَا، وَلَا يُعضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يَلتَقِطُ سَاقِطَتَهَا إِلَّا مُنشِدٌ، وَمَن قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيرِ النَّظَرَينِ: إِمَّا أَن يُعطَى - يَعنِي الدِّيَةَ، وَإِمَّا أَن يُقَادَ أَهلُ القَتِيلِ. قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِن أَهلِ اليَمَنِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شَاةٍ، فَقَالَ: اكتُب لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: اكتُبُوا لِأَبِي شَاةٍ. فَقَالَ رَجُلٌ مِن قُرَيشٍ: إِلَّا الإِذخِرَ، فَإِنَّا نَجعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِلَّا الإِذخِرَ.
قال الوليد بن مسلم: فقلت للأوزاعي: ما قوله اكتب لي يا رسول؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه أحمد (2/ 238)، والبخاريُّ (112)، ومسلم (1355)، وأبو داود (2017).
ــ
وقوله ومن قُتِل له قتيل فهو بخير النَّظَرَين، الحديث حجة للشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وروي عن ابن المسيب وابن سيرين على قولهم: إن ولي دم العمد بالخيار بين القصاص والدِّية، ويُجبَر القاتل عليها إذا اختارها الولي - وهي رواية أشهب عن مالك، وذهب مالك في رواية ابن القاسم وغيره إلى أن الذي للولي إنما هو القتل فقط أو العفو، وليس له أن يجبر القاتل على الدِّية تمسُّكًا بقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصَاصُ فِي القَتلَى} و: {وَكَتَبنَا عَلَيهِم فِيهَا أَنَّ النَّفسَ بِالنَّفسِ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: كتاب الله القصاص (1)(2)، وفي المسألة أبحاث تنظر في مسائل الخلاف.
وقوله اكتبوا لأبي شاة دليل على جواز كتابة العلم، وهو مذهب الجمهور، وقد كرهه قومٌ من أهل العلم تمسُّكًا بحديث أبي سعيد الآتي في كتاب
(1) رواه أحمد (3/ 128)، والبخاري (4499)، والنسائي (8/ 26)، وابن ماجه (2649) من حديث أنس.
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من (ل) و (هـ).
[1215]
وعَن جَابِرٍ قَالَ: سَمِعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدِكُم أَن يَحمِلَ السلاح بمكة.
رواه مسلم (1356).
[1216]
وعَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الفَتحِ وَعَلَى رَأسِهِ المِغفَرٌ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يا رسول الله، ابنُ خَطَلٍ
ــ
العلم، وكان محمل النهي الذي في حديث أبي سعيد إنما هو لئلا يتكل الناس على الكتب ويتركوا الحفظ، أو لئلا يُخلط بالقرآن غيرُه؛ لقوله في الحديث نفسه: من كتب عني شيئًا سوى القرآن فليمحه (1).
وقوله لا يحل لأحدٍ أن يحمل السلاح بمكة قال به الحسن البصري وأجازه الجمهور إن دعت إليه حاجة وضرورة؛ تمسُّكًا بدخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة بالسلاح. وهذا فيه بُعد لما قدَّمناه مما يدل على خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقد أنكر عبد الله بن عمر على الحجاج أمره بحمل السلاح في الحرم، ويمكن أن يعلَّل بأن ذلك في أيام الموسم لكثرة الخلق فيخاف أن يصيب أحدًا أو يروّعه؛ كما قد نبَّه عليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث بقوله: من مرَّ بشيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبلٍ فليأخذ على نصالها، لا يعقر بكفه مسلمًا (2)! ، والله أعلم.
(المغفر): ما يلبس على الرأس من درع الحديد، وأصله من الغفر وهو
(1) رواه أحمد (3/ 12)، ومسلم (3004).
(2)
قال ابن حجر في فتح الباري (1/ 547) والتقدير: فليأخذ بكفِّه على نصالها لا يعقر مسلمًا.
والحديث رواه البخاري (452)، ومسلم (2615) من حديث أبي موسى الأشعري.
مُتَعَلِّقٌ بِأَستَارِ الكَعبَةِ! فَقَالَ: اقتُلُوهُ.
رواه أحمد (3/ 109)، والبخاريُّ (1846)، ومسلم (1357)، وأبو داود (2685)، والترمذيُّ (1693)، والنسائيُّ (5/ 200)، وابن ماجه (2805).
[1217]
وعَن جَابِرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ يَومَ فَتحِ مَكَّةَ وَعَلَيهِ عِمَامَةٌ سَودَاءُ بِغَيرِ إِحرَامٍ.
رواه أحمد (1/ 363)، ومسلم (1358)، وأبو داود (4076)، والترمذيُّ (1735)، والنَّسائيُّ (5/ 201)، وابن ماجه (2822).
ــ
الستر، وهو دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عُنوة، وهو الصحيح من الأحاديث والمعلوم من السِّير. لكنه عندما دخلها أمَّن أهلها، كما سيأتي. وإنما اغتر من قال بأنها فتحت صلحًا لما سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَعرِض لأهلها بقتل ولا سبي، فظن وقدَّر هنالك صلحًا في الخفاء مع أبي سفيان أو غيره، وهذا كله وهم، والصحيح الأول.
و(ابن خطل) هو هلال بن خطل، وقيل عبد العزى ابن خطل - هذا قول ابن إسحاق وجماعة، وقال الزبير بن بكار: ابن خطل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح هو هلال بن عبد الله بن عبد مناف بن أسعد بن جابر بن كثير بن تيم بن غالب بن فهر. قال: وعبد الله هو الذي يُقال له خطل، ولأخيه عبد العزى بن عبد مناف أيضًا خطل - هما جميعًا الخطلان؛ قاله أبو عمر. وكان قد أسلم وهاجر، فاستكتبه النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتدَّ، فقتل رجلًا كان يخدمه وفرَّ إلى مكة، وجعل يسبَّ النبي صلى الله عليه وسلم ويهجوه. وفيه دليل على صحَّة مذهب الجمهور في أن الحدود تُقام بالحرم كما تقدَّم.
وقول جابر إنَّه صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء ليس مناقضًا