الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(23) باب صلح الحديبية وقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحنَا لَكَ فَتحًا مُبِينًا}
[1300]
عَن البَرَاءِ قَالَ: لَمَّا أُحصِرَ - يعني: النَّبِيُّ-صلى الله عليه وسلم عِندَ البَيتِ، صَالَحَهُ أَهلُ مَكَّةَ عَلَى أَن يَدخُلَهَا فَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا، وَلَا يَدخُلَهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ: السَّيفِ وَقِرَابِهِ، وَلَا يَخرُجَ بِأَحَدٍ مَعَهُ مِن أَهلِهَا، وَلَا يَمنَعَ أَحَدًا يَمكُثُ بِهَا مِمَّن كَانَ مَعَهُ، قَالَ لِعَلِيٍّ: اكتُب الشَّرطَ بَينَنَا: بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا قَاضَى عَلَيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ المُشرِكُونَ: لَو
ــ
(23)
ومن باب: صلح الحديبية
(جُلُبان السلاح) بضم الجيم واللام. وذكره الهروي: بإسكان اللام. وصوَّبه ثابت. وهو مثل الجلبان من القطاني، وقاله بعض المتقنين بالراء:(جربان) بدل اللام. وجربان السيف والقميص. وفي البخاري: بجلب السلاح. ولعله جمع جلبان. وقد فسر الجلبان في الحديث: بالسيف وما هو فيه، وهو شبه الجراب من الأدم، يوضع فيه السيف مغمودًا، ويطرح فيه السوط. وفائدة اشتراطهم ذلك: أن لا يدخل عليهم على حالة المحاربين وهيئتهم، فيظن أنه دخلها عليهم قهرًا.
وقوله: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)؛ أي: ما صالح عليه. وهو حجَّة لأرباب الوثائق على افتتاحهم الوثائق التي لها بال بهذا، كقولهم: هذا ما اشترى، وهذا ما أعتق، وهذا ما أصدق. وعلى تقديم الرجل الكبير في صدر الوثيقة، بائعًا كان، أو مبتاعًا.
و(يمحاها): يذهبها ويزيلها؛ يعني: الكلمة التي نازعه فيها. يقال: محوت الشيء، ومحيته، أمحوه، وأمحاه، محوًا، ومحيًا.
وامتناع علي رضي الله عنه من المحو مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك: إنما كان لأنه لم يفهم من ذلك الأمر الجزم، ولا الإيجاب. وإنما فهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك
نَعلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ تَابَعنَاكَ، - وفي رواية: بايعناك - وَلَكِن اكتُب: مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللَّهِ. فَأَمَرَ عَلِيًّا أَن يَمحَاهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللَّهِ، لَا أَمحَاهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرِنِي مَكَانَهَا. فَأَرَاهُ مَكَانَهَا. فَمَحَاهَا، وَكَتَبَ: ابنُ عَبدِ اللَّهِ. فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا أَن كَانَ اليَومُ الثَّالِثِ قَالَوا لِعَلِيٍّ: هَذَا آخِرُ يَومٍ مِن شَرطِ صَاحِبِكَ فَأمُرهُ فَليَخرُج، فَأَخبَرَهُ بِذَلِكَ. فَقَالَ: نَعَم، فَخَرَجَ.
رواه أحمد (4/ 289 - 291)، والبخاري (2698)، ومسلم (1783)(92)، وأبو داود (1832).
ــ
على جهة المصلحة في موافقتهم على ما طلبوه، لكن خفي على علي وعمر وغيرهما وجه المصلحة في ذلك؛ ولذلك عظمت عليهم تلك الحال، واشتدت عليهم حتى قال عمر ما قال: وحلف علي: ألا يمحو ما أمره بمحوه تعظيمًا لمحو اسم الرسالة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم في كل ذلك (1) مقبل على ما أراه الله، وممتثل أمر الله تعالى ساكن الجأش، واثقًا بأن الله لا يضيعه، وأن الله سيجعل لهم في ذلك خيرًا وفرجًا، ولذلك كان حال أبي بكر من سكون الجأش، والثقة بالله؟ حتى قال لعمر ما قال، مما يدل على موافقته رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا، وباطنًا، حتى نصَّ على عمر ما قاله له رسول الله صلى الله عليه وسلم حرفًا، حرفًا، حسب ما نصه في حديث سهل بن حنيف.
وقوله: (أرني مكانها، فأراه، فمحاها وكتب)؛ ظاهر هذا: أنه صلى الله عليه وسلم محى تلك الكلمة التي هي (رسول الله صلى الله عليه وسلم) بيده، وكتب مكانها:(ابن عبد الله)، وقد رواه البخاري بأظهر من هذا فقال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، فكتب. وزاد في طريق
(1) ساقط من (ع).
[1301]
وعَن أَنَسٍ: أَنَّ قُرَيشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِيهِم سُهَيلُ بنُ عَمرٍو، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ: اكتُب: بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ. قَالَ سُهَيلٌ: أَمَّا بِسمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم، فَمَا نَدرِي بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ،
ــ
أخرى: (ولا يحسن أن يكتب). فقال جماعة بجواز هذا الظاهر عليه، وأنه كتب بيده. منهم: السمناني، وأبو ذر، والباجي. ورأوا: أن ذلك غير قادح في كونه: أمِّيًا، ولا معارض لقوله تعالى:{وَمَا كُنتَ تَتلُو مِن قَبلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} ولا لقوله: (إنا أمة أميِّة، لا نكتب ولا نحسب)(1)؛ بل رأوه زيادة في معجزاته، واستظهارًا على صدقه، وصحة رسالته. وذلك: أنه كتب من غير تعلم الكتابة، ولا تعاط لأسبابها، فكان ذلك خارقًا للعادة، كما أنه صلى الله عليه وسلم عَلِم عِلم الأولين والآخرين من غير تعلُّم، ولا اكتساب، فكان ذلك أبلغ في معجزاته، وأعظم في فضائله، هذا لو فرض أنه علم الكتابة كلها، وداوم عليها، فكيف ولم يرو عنه قط أنه كتب في غير ذلك الموطن الخاص، بل لم يفارق ما كان عليه من عدم معرفته بالكتابة حالة كتابته تلك، وإنما أجرى الله تعالى على يده، وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها:(ابن عبد الله) لمن قرأها (2)، ثم هل كان عالِمًا في تلك الحال بنظم تلك الحروف الخاصة؛ كل ذلك محتمل. وعلى التقديرين: فلا يزول عنه اسم الأمي بذلك؛ ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة: (ولا يحسن أن يكتب). فبقي عليه اسم الأمي مع كونه قال: (كتب). وقد أنكر هذا كثير من متفقهة الأندلس وغيرهم، وشدّدوا النكير فيه، ونسبوا قائله إلى الكفر. وذلك دليل: على عدم العلوم النظرية، وعدم التوقف في تكفير المسلمين، ولم يتفطنوا لأن تكفير المسلم كقتله،
(1) رواه أحمد (2/ 43 و 52)، ومسلم (761)، وأبو داود (2319)، والنسائي (5/ 139).
(2)
ساقط من (ع).
وَلَكِن اكتُب مَا نَعرِفُ: بِاسمِكَ اللَّهُمَّ. فَقَالَ: اكتُب: مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَوا: لَو عَلِمنَا أَنَّكَ رَسُولُه لَاتَّبَعنَاكَ، وَلَكِن اكتُب: اسمَكَ وَاسمَ أَبِيكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اكتُب مِن مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ اللَّهِ. فَاشتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَن مَن جَاءَ مِنكُم لَم نَرُدَّهُ عَلَيكُم، وَمَن جَاءَ مِنَّا رَدَدتُمُوهُ عَلَينَا. فَقَالَوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَكتُبُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَم، إِنَّهُ مَن ذَهَبَ إِلَيهِم فَأَبعَدَهُ اللَّهُ، وَمَن جَاءَنَا مِنهُم سَيَجعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخرَجًا.
رواه أحمد (3/ 268)، ومسلم (1784).
ــ
على ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح، لا سيما رمي من شهد له أهل عصره بالعلم، والفضل، والإمامة.
على أن المسألة ليست قطعية، بل مستندها ظواهر أخبار آحاد صحيحة، غير أن العقل لا يحيلها، وليس في الشريعة قاطع يحيل وقوعها على ما تقدَّم.
وقوله في الرواية الأخرى لعلي: (اكتب: من محمد بن عبد الله)؛ ليس معارضًا للرواية التي تقدَّم ذكرها؛ إذ ليس فيها: أن عليًّا كتب بيده، وإنما فيها: أنه صلى الله عليه وسلم أمره بالكتابة كما أمره بالمحو، فلم يمح علي، ولم يكتب، فلما امتنع علي منهما جميعًا للوجه الذي ذكرناه، قال له صلى الله عليه وسلم:(أرني مكانها)؛ فأراه إيَّاه، فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب بيده، على ما تقرر من المذهب الأول. وعليه تجتمع الروايات المختلفة.
وقوله: (فاشترطوا عليه: أن من جاء منكم لم نرده، ومن جاء منا رددتموه علينا)؛ لا خلاف بين الرواة والمتأولين: أن الرجال داخلون في هذا اللفظ العام، واختلفوا: هل دخل فيهم النساء؟ فمنهم من منع ذلك، واستدل بما جاء في البخاري في كتاب: الشروط، في هذا الحديث، وهو أنه قال: ولا يأتيك منا رجل
[1302]
وعَن أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَامَ سَهلُ بنُ حُنَيفٍ يَومَ صِفِّينَ فَقَالَ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا أَنفُسَكُم، لَقَد كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم يَومَ الحُدَيبِيَةِ، وَلَو نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلنَا. وَذَلِكَ فِي الصُّلحِ الَّذِي كَانَ بَينَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَينَ
ــ
على دينك إلا رددته إلينا (1). وهذا نص، وعلى هذا: فلا يحتاج إلى اعتذار عن حبس النبي صلى الله عليه وسلم النساء اللاتي أسلمن وهاجرن إلى المدينة. ولا أن نقول في قوله تعالى: {فَلا تَرجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ} أنه ناسخ. والأكثر على أنهن دخلن في ذلك العموم. وقد روي أن سبيعة بنت الحارث الأسلمي جاء زوجها صيفي يطلبها، وكانت أسلمت، وهاجرت. وكذلك أم كلثوم بنت عقبة، فجاء زوجها: مسافر يطلبها بالشرط، فأنزل الله تعالى الآية في النهي عن ردهن، ورأوا: أن هذه الآية ناسخة لما تقرر بالشرط المتقدَّم؛ الذي هو: ردهن إلى الكفار. والطريقة الأولى أحسن، وأبعد عن الإشكال؛ إذ لم يدخلن في الشرط.
ثم اختلفوا: فيما إذا صولح العدو على مثل هذا الشرط. فذهب الكوفيون: إلى أن ذلك لا يجوز؛ لا في الرجال ولا في النساء. ورأوا: أن كل ذلك منسوخ.
ونحوه حكى مكي في الناسخ والمنسوخ له عن المذهب. وذهب مالك في المشهور عنه، وحكي عن أصحاب الشافعي جواز ذلك، ولزومه في الرجال دون النساء، لكن بشرط أن يكونوا مأمونين على دمه (2).
وقيل: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لضعف المسلمين عن مقاومة عدوهم في ذلك الوقت، وذلك لأنه إنما رد من رد ممن جاء مسلمًا لآبائهم، وذوي أرحامهم؛ لعطفهم عليهم، ولحبهم فيهم، ولصحة إسلام من أسلم منهم، وللذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم من حال من رد: أنه سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا، وكذلك كان. وكل هذه الأمور معدومة في حق غيره صلى الله عليه وسلم، فلا يحتج بتلك القضية على جواز ذلك. والله تعالى أعلم.
(1) رواه البخاري (2731 و 2732).
(2)
في (ز): دينه.
المُشرِكِينَ، فَجَاءَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسنَا عَلَى حَقٍّ وَهُم عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَلَيسَ قَتلَانَا فِي الجَنَّةِ وَقَتلَاهُم فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: ففيم نُعطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ وَنَرجِعُ وَلَمَّا يَحكُمِ اللَّهُ بَينَنَا وَبَينَهُم؟ فقال: يَا بنَ الخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَن يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا. قَالَ: فَانطَلَقَ عُمَرُ فَلَم يَصبِر مُتَغَيِّظًا، فَأَتَى أَبَا بَكرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكرٍ، أَلَسنَا عَلَى حَقٍّ وَهُم عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ: بَلَى.
ــ
وقول سهل بن حنيف: (أيها الناس اتهموا أنفسكم)، وفي الأخرى:(رأيكم)؛ يعني به: التثبت فيما كانوا فيه، والتصبر، وألا يستعجلوا في أمورهم. ووجه استدلاله بها: أن تلك الحالة كان ظاهرها مكروهًا لهم، صعبًا عليهم، فلما تثبتوا في أمرهم، وأطاعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الله لهم من أمرهم فرجًا ومخرجًا، فكأنه يقول لهم: إن صبرتم على المكروه، وتثبتم في أمركم، واتقيتم الله، جعل الله لكم من هذه الفتن مخرجًا، كما جعله لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية.
وقال القاضي عياض: إنما قال ذلك سهل بن حنيف لما ظهر في أصحاب علي من كراهة شأن التحكيم، ومراوضة الصلح، وكان الظفر لهم، حتى رفع لهم أهل الشام المصاحف، ودعوهم إليها، ورغبوا في المصالحة.
وقول عمر: (لم نعطي الدنية في ديننا)؛ يعني بالدنية: الحالة الخسيسة، ويعني به: الصلح على ما شرطوا. ولم يكن ذلك من عمر شكًّا، ولا معارضة، بل كان استكشافًا لما خفي عنه، وحثًّا على قتال أهل الكفر، وإذلالهم، وحرصًا على ظهور المسلمين على عدوهم. وهذا على مقتضى ما كان عنده من القوة في دين الله، والجرأة والشجاعة التي خصَّه الله بها. وجواب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بما جاوباه به يدل: على أن عندهما من علم باطنة ذلك، وعاقبة أمره ما ليس عند عمر، ولذلك لم يسكن عمر حتى بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح، فسكن جأشه، وطابت نفسه.
قَالَ: أَلَيسَ قَتلَانَا فِي الجَنَّةِ وَقَتلَاهُم فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَعَلَامَ نُعطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ وَنَرجِعُ وَلَمَّا يَحكُمِ اللَّهُ بَينَنَا وَبَينَهُم؟ قَالَ: يَا بنَ الخَطَّابِ، إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَن يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا. قَالَ: فَنَزَلَ القُرآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالفَتحِ، فَأَرسَلَ إِلَى عُمَرَ فَأَقرَأَهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوفَتحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَم. فَطَابَت نَفسُهُ وَرَجَعَ.
وَفِي رِوَاية: قال: أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا رَأيَكُم، وَاللَّهِ لَقَد رَأَيتُنِي يَومَ أَبِي جَندَلٍ، وَلَو أَنِّي أَستَطِيعُ أَن أَرُدَّ أَمرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَرَدَدتُهُ، وَاللَّهِ مَا وَضَعنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمرٍ قَطُّ إِلَّا أَسهَلنَ بِنَا إِلَى أَمرٍ نَعرِفُهُ، إِلَّا أَمرَكُم هَذَا.
ــ
وقول سهل بن حنيف: (ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر قط إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه، إلا أمركم هذا)؛ وضعنا: رفعنا هنا؛ أي: وضعناها على عواتقنا. والعواتق: جمع عاتق، وهو من المنكب وما يليه إلى العنق، وهو الكاهل، والكتد، والثبج (1).
و(أسهلن)؛ أي: حملتنا إلى مر سهل، وهو من: أسهل: إذا دخل سهلًا من الأرض، كأنجد، وأشأم، وأعرق: إذا دخل تلك المواضع.
ويعني بهذا الكلام: أن كل قتال قاتل فيه ما رفع سيفه فيه إلا عن بصيرة لعاقبة أمره، فسهل عليه بسببها ما يلقاه من مشقات الحروب، غير تلك الأمور التي كانوا فيها، فكانوا كلما لاح لهم فيها مصلحة وعاقبة حسنة ظهر لهم نقيضها. ويدل على صحة هذا قوله:(ما فتحنا منها من خصم إلا انفجر علينا منه خصم). أصل الخصم: طرف الشيء وجانبه الذي يؤخذ به. وخصم الراوية: طرفها. وخُصم العِدل: جانبه الذي يؤخذ به.
(1)"الكَتِد": مجتمع الكتفين من الإنسان والفرس. و"الثَّبَج": ما بين الكاهل إلى الظهر.
وقيل: ثبج كلِّ شيء: وسطه.
وَفِي أُخرَى: ما فتحنا من خصم إلا انفجر علينا منه خصم.
رواه أحمد (4/ 328 - 331)، والبخاري (1731) و (2732)، ومسلم (1785)(94 و 95 و 96)، وأبو داود (2765).
[1303]
وعن أَنَسَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَت: {إِنَّا فَتَحنَا لَكَ فَتحًا مُبِينًا} إِلَى قَولِهِ: {فَوزًا عَظِيمًا} مَرجِعَهُ مِن الحُدَيبِيَةِ، وَهُم مخَالِطُهُم الحُزنُ وَالكَآبَةُ، وَقَد نَحَرَ الهَديَ بِالحُدَيبِيَةِ، قال لَقَد نزِلَت عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن الدُّنيَا جَمِيعًا.
رواه أحمد (3/ 122)، والبخاري (4172)، ومسلم (1786)، والترمذي (3263).
* * *
ــ
وقوله: (ما فتحنا) وَهمٌ من بعض الرواة، وصوابه:(ما سددنا)؛ لأنه مقابل: (انفجر علينا)، وكذا وقع في البخاري:(سددنا) مكان: (فتحنا).
وهذا الحديث يدل على جواز على ما شرطه العدو عند ضعف المسلمين عن مقاومة عدوهم، وعند الحاجة إلى ذلك، ولا خلاف في جواز الصلح عند ذلك، إلا ما ذكر من الخلاف في رد من جاء مسلمًا، وكذلك لو صولحوا على مال يؤخذ منهم، فأما إن لم تدع حاجة، ولا ضرورة إلى ذلك، ولم يكن للعدو قوة إلا لما بذلوه من المال. فأجاز ذلك جماعة منهم: الأوزاعي. ومنع ذلك مالك وأصحابه، وعلماء المدينة.
واختلف في مقدار مدة الصلح حيث يجوز. فقال مالك: ذلك مفوّض إلى اجتهاد الإمام. وحدّ الشافعي أكثره بعشرة أعوام (1) بناءً منه على صلح الحديبية
(1) في (ج): سنين.