الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(18) باب من أحصى أُحصِي عليه والنهي عن احتقار قليل الصدقة وفضل إخفائها
[896]
عَن أَسمَاءَ بِنتِ أَبِي بَكرٍ، قَالَت: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (انفَحِي أَوِ انضَحِي أَو أَنفِقِي، وَلا تُحصِي فَيُحصِيَ اللهُ عَلَيكِ، وَلا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيكِ).
رواه أحمد (6/ 345 و 346)، والبخاري (1433)، ومسلم (1029)، والنسائي (5/ 73 - 74).
ــ
(18)
ومن باب: من أَحصَى أُحصِي عليه
قوله: (انفحي أو انضحي أو أنفقي)، [معناه]: أعطي، وأصل النفح: الضرب بالعصا أو بالسيف، وكأن الذي ينفق يضرب المعطى له بما يعطيه. ويحتمل أن يكون من نَفَحَ الطيبُ: إذا تحركت رائحته؛ إذ العطية تستطاب كما تستطاب الرائحة الطيبة، أو من نَفَحَت الريح، إذا [هَبَّت] باردة، فكأنه أمر بعطية سهلة كثيرة.
وفي حديث أبي ذر: ونفح به يمينًا وشمالاً (1)؛ أي: أعطاه في كل وجه. وأصل النضح: الرش. وكأنه أمره بالتصدّق بما تيسّر، وإن كان قليلاً.
وفي الحديث: (ارضخي)؛ أي: أعطي بغير تقدير. ومنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرضخ للنساء من الغنيمة، ولا يضرب لهن بسهم (2). ويفيد تكرار هذه الألفاظ تأكد أمر الصدقة، والحضّ عليها على أي حال تيسَّرت بكثير أو قليل، بمقدر أو بغير مقدر، والله أعلم.
(1) سبق تخريجه في التلخيص برقم (859).
(2)
رواه أحمد (224 و 352)، وأبو داود (2728) من حديث ابن عباس.
[897]
وَعَنهَا؛ أَنَّهَا جَاءَتِ للنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَت: يَا نَبِيَّ اللهِ لَيسَ لِي شَيءٌ إِلا مَا أَدخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيرُ، فَهَل عَلَيَّ جُنَاحٌ أَن أَرضَخَ مِمَّا يُدخِلُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ:(ارضَخِي مَا استَطَعتِ، وَلا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيكِ).
رواه أحمد (6/ 354)، والبخاري (1434)، ومسلم (1029)(89)، والنسائي (5/ 74).
[898]
وَعَن أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: (يَا نِسَاءَ المُسلِمَاتِ لا تَحقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَو فِرسِنَ شَاةٍ).
رواه أحمد (2/ 264 و 432)، والبخاري (6017)، ومسلم (1030)، والترمذي (2130).
ــ
وقولها: ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير؛ تعني: ما يدخل عليها للإنفاق عليها وعلى أهل بيتها، وهذا محمول على ما تقدّم.
وقوله: (فلا تحصي فيحصي الله عليك)؛ أي: لا تبخلي فتجازين على بخلك. وأصل هذا: من الإحصاء الذي هو العدّ. وعبر عن البخل بالإحصاء؛ لأن البخيل يعدُّ ماله ويتحرز به، ويغار عليه.
وقوله: (ولا توعي فيوعي الله عليك)؛ أي: لا تمسكي المال في الوعاء فيمسك الله فضله وثوابه عنك. وفي غير مسلم: (ولا توكي فيوكي عليك)؛ أي: لا تربطي. والوكاء: الخيط الذي يُشدُّ به. وهذا كله من باب مقابلة اللفظ باللفظ.
ومعنى ما ذكر: أنك إذا فعلت ذلك جزيت عليه بنسبة ما فعلت.
وقوله: (يا نساء المؤمنات)؛ روايتنا فيه بفتح الهمزة وكسر تاء المؤمنات على المنادى المضاف، وهو من إضافة الشيء إلى صفته. وقد تقدّم. وقد قدّر النحويون [هذا]: يا نساء الجماعات المؤمنات، تحرزا من إضافة الشيء إلى
[899]
وَعَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَبعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللهِ
ــ
نفسه (1). وهذه رواية الجمهور، وقد رواه بعضهم: يا نساء - بالرفع -، والمؤمنات - بالكسر -، وعلى هذه الرواية يكون: يا نساء، منادى مفردًا، والمؤمنات صفة على الموضع. ويجوز رفعه على اللفظ، كما تقول: يا زيد العاقل، بالرفع على اللفظ، والنصب على الموضع.
والفِرسَن: للبعير كالقدم للإنسان، وأصله للبعير. وقد يقال للشاة، كما جاء هنا، ومقصود هذا الحديث النهي عن احتقار القليل من الصدقة. و (لو) هنا للتقليل، وقد بينا محاملها في أول الكتاب.
وقوله: (سبعة يظلهم الله في ظله)؛ أي: في ظل عرشه، كما جاء في الحديث الآخر، والمراد يوم القيامة إذا قام الناس في صعيدها، وقربت الشمس من الرءوس، وأُديرت النار بأهل الموقف، فليس هناك إلا ظل العرش. فأما ظل الصدقة فمن ظل العرش، والله أعلم.
ويحتمل أن يراد بالظلّ هنا: الكَنَف والكرامة والوقاية من المكاره، كما تقول العرب: أنا في ظل فلان؛ أي: في صيانته وكرامته وكنفه، وإلى هذا نحا ابن دينار.
والإمام العادل: هو كل من ولي شيئًا من أمور المسلمين، فعدل فيه.
وقوله: (شاب نشأ بعبادة الله)؛ كذا الرواية: بعبادة الله - بالباء، وهذه الباء هي باء المصاحبة، كما تقول: جاء زيد بسلاحه؛ أي: مصاحبًا لها، ويحتمل أن تكون بمعنى الفاء، كما قد تكون الفاء بمعنى الباء، في مثل قوله تعالى:{هَل يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ} ونشأ نبت وابتدأ؛ أي: لم يكن له صبوة، وهو الذي قال فيه في الحديث الآخر:(يعجب ربك من صبيٍّ ليست له صبوةٌ)(2)، وإنما كان ذلك لغلبة التقوى التي بسببها ارتفعت الصبوة.
(1) في (ع): جنسه.
(2)
رواه أحمد (4/ 151).
وَرَجُلٌ قَلبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجتَمَعَا عَلَيهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجُلٌ دَعَتهُ امرَأَةٌ ذَاتُ مَنصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخفَاهَا حَتَّى لا تَعلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنفِقُ شِمَالُهُ،
ــ
وقوله: (ورجل قلبه معلّق في المساجد)؛ أي: يحب الكون فيها للصلاة والذكر وقراءة القرآن، وهذا إنما يكون ممن استغرقه حبُّ الصلاة والمحافظة عليها وشُغِف بها.
وقوله: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه)؛ أي: داما على المحبة الصادقة الدِّينية، المبرأة عن الأغراض الدُّنيوية، ولم يقطعاها بعارض في حال اجتماعهما، ولا حال افتراقهما.
وقوله: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله)؛ معنى دعته: عرضت نفسها عليه؛ أي (1) للفاحشة. وقول المدعو في مثل هذا: إني أخاف الله، وامتناعه لذلك دليلٌ: على عظيم معرفته بالله تعالى، وشدّة خوفه من عقابه، ومتين تقواه، وحيائه من الله تعالى. وهذا هو المقام اليوسفي.
وقوله: (ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها) هذه صدقة التطوع في قول ابن عباس وأكثر العلماء. وهو حضٌّ على الإخلاص في الأعمال، والتستر بها، ويستوي في ذلك جميع أعمال البر التطوعية.
فأما الفرائض فالأولى إشاعتها وإظهارها لتنحفظ قواعد الدين، ويجتمع الناس على العمل بها، فلا يضيع منها شيء، ويظهر بإظهارها جمال دين الإسلام، وتعلم حدوده وأحكامه. والإخلاص واجب في جميع القرب، والرياء مفسد لها.
وقوله: (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)؛ هذا مبالغة في إخفاء الصدقة.
(1) من (ع).
وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَت عَينَاهُ).
رواه أحمد (2/ 439)، والبخاري (660)، ومسلم (1031)، والترمذي (239).
* * *
ــ
وقد سمعنا من بعض المشايخ أن ذلك أن يتصدق على الضعيف في صورة المشتري منه، فيدفع له درهمًا مثلاً في شيء يساوي نصف درهم. فالصورة مبايعة، والحقيقة صدقة، وهو اعتبار حسن.
وقوله: (ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)؛ خاليًا يعني: من الخلق، ومن الالتفات إلى غير الله.
وفيض العين: بكاؤها. وهو على حسب حال الذاكر، وبحسب ما ينكشف له من أوصافه تعالى، فإن انكشف له غضبه، فبكاؤه عن خوف، وإن انكشف [له] جماله وجلاله، فبكاؤه عن محبة وشوق، وهكذا يتلوَّن الذاكر بتلوُّن (1) ما يذكر من الأسماء والصفات.
وهذا الحديث جدير بأن ينعم فيه النظر، ويستخرج ما فيه من اللطائف والعبر، والله الموفق الملهم.
* * *
(1) في (ع): بحسب.