الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4) باب وجوب الزكاة في البقر والغنم، وإثم مانع الزكاة
[856]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِن صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنهَا حَقَّهَا إِلا إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ صُفِّحَت لَهُ صَفَائِحَ
ــ
تأخيرها عن يوم الفطر. ورخص بعضهم في تأخيرها، وقاله مالك وأحمد بن حنبل، وجعله بعض شيوخنا خلافًا من قول مالك. وحاصل مشهور مذهب مالك: أن آخر يوم الفطر آخر وقت أدائها، وما بعد الفطر وقت قضائها، والله تعالى أعلم.
(4)
ومن باب: وجوب الزكاة في البقر والغنم
قوله: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها)؛ كذا صحت الرواية بهاء التأنيث المفردة، وظاهره: أنه عائدٌ على الفضة، فإنه أقرب مذكور، وهي مؤنثة، وحينئذ يبقى ذكر الذهب ضائعًا لا فائدة له. وهذا مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحبَارِ وَالرُّهبَانِ لَيَأكُلُونَ أَموَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
وقد حُمِل هذا على الاكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر، كما قال الشاعر (1):
نحن بما عندنا وأنت بِما
…
عندك راضٍ والرأي مختلف
وقال الآخر:
لكل همٍّ من الهموم سعه
…
والصبح والمسي لا بقاء معه
(1) هو قيس بن الخطيم.
مِن نَارٍ، فَأُحمِيَ عَلَيهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكوَى بِهَا جَنبُهُ، وَجَبِينُهُ وَظَهرُهُ، كُلَّمَا رَدَت أُعِيدَت لَهُ فِي يَومٍ كَانَ مِقدَارُهُ خَمسِينَ أَلفَ سَنَةٍ حَتَّى
ــ
وقيل: أعادها على معنى الكلمات المتقدمة، وكأنه قال: لا يؤدي من تلك الأمور المذكورات حقَّها. وأشبه من هذه الأوجه أن يقال: إن الذهب والفضة يقال عليهما: عينٌ لغةً، فأعاد عليها الضمير وهي مؤنثة، والله أعلم.
وهذا الحديث يدل على أن الذهب والبقر فيهما الزكاة. وإن لم يجئ ذكرهما في حديث جابر المتقدم، ولا في كتاب أبي بكر في الصدقة. على ما ذكره البخاري. ولا خلاف في وجوب الزكاة فيهما، وإن اختلفوا في نصاب البقر على ما يأتي.
وقوله: (فيكوى بها جبينُه وجنبُه وظهرُه)؛ قيل: إنما خُصَّت هذه المواضع بالكي دون غيرها من أعضائه لتقطيبه وجهه في وجه السائل، وازوراره عنه بجانبه، وانصرافه عنه بظهره.
وقوله: (كلما بَرَدَت أُعِيدَت)؛ كذا رواية السجزي، ولكافة الرواة: كلها رُدَّت، والأول هو الصواب، فتأمله فإنه هو المناسب للمعنى.
وقوله: {فِي يَومٍ كَانَ مِقدَارُهُ خَمسِينَ أَلفَ سَنَةٍ} قيل: معناه: لو حاسب فيه غير الله سبحانه وتعالى. الحسن: قدر مواقفهم للحساب. ابن اليمان: كل موقف منها ألف سنة (1).
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! ليخفّف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة)(2).
(1) جاء في تفسير القرطبي (18/ 282): وقال يمان: هو يوم القيامة، فيه خمسون موطنًا، كل موطن ألف سنة.
(2)
قال الهيثمي في المجمع (10/ 337): رواه أحمد وأبو يعلى، وإسناده حسن على ضعفٍ في راويه.
يُقضَى بَينَ العِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَالإِبِلُ؟ قَالَ: وَلا صَاحِبُ إِبِلٍ لا يُؤَدِّي مِنهَا حَقَّهَا، وَمِن حَقِّهَا حَلَبُهَا يَومَ وِردِهَا، إِلا إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرقَرٍ، أَوفَرَ مَا كَانَت لا يَفقِدُ مِنهَا فَصِيلاً وَاحِدًا تَطَؤُهُ بِأَخفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفوَاهِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيهِ أُولاهَا رُدَّ عَلَيهِ أُخرَاهَا فِي يَومٍ كَانَ مِقدَارُهُ خَمسِينَ أَلفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقضَى بَينَ العِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! فَالبَقَرُ وَالغَنَمُ؟ قَالَ: وَلا صَاحِبُ بَقَرٍ وَلا غَنَمٍ لا يُؤَدِّي مِنهَا حَقَّهَا، إِلا إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرقَرٍ، لا يَفقِدُ مِنهَا شَيئًا، لَيسَ فِيهَا عَقصَاءُ وَلا جَلحَاءُ
ــ
وقوله: (بُطح لها)؛ أي: أُلقي على وجهه. قاله بعض المفسرين. وقال أهل اللغة: البطح: هو البسط كيف ما كان على الوجه أو غيره، ومنه: سميت بطحاء مكة؛ لانبساطها.
وقوله: (بقاع قَرقَرٍ)؛ أي: بموضع مستو واسع. وأصله: الموضع المنخفض الذي يستقرُّ فيه الماءُ، ويقال فيه: قاع، ويجمع: قِيعَة، وقيعان، مثل: جار وجيرة وجيران. وقال الثعالبي: إذا كانت الأرض مستوية مع الاتساع فهي الخَبت والجَدجَد والصحيح، ثم القاع والقرقر، والصفصف.
وقوله: (ليس فيهما عقصاء)؛ وهي الملتوِية القرن. ورَجُلٌ أعقصُ: فيه التواء وصعوبة أخلاق.
(ولا جلحاء)؛ وهي التي لا قرون لها. (ولا عضباء)؛ وهي المكسورة داخل القرن، وهو المشاش، وقد يكون العضب في الأذن، والمعضوب: الزَّمِن الذي لا حراك به. هذا معنى ما ذكره أبو عبيد. وقال ابن دريد: الأعضب: الذي انكسر أحد قرنيه. وقال غير هؤلاء: الأعضب في القرن والأذن: الذي انتهى القطع إلى نصفه فما فوقه.
وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة تسمّى: العضباء. ومن رواية مصعب عن مالك: وكانت تسمى: القصواء. وفي
وَلا عَضبَاءُ تَنطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظلافِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيهِ أُولاهَا رُدَّ عَلَيهِ أُخرَاهَا فِي يَومٍ كَانَ مِقدَارُهُ خَمسِينَ أَلفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقضَى بَينَ العِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ).
ــ
حديث أنس: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته الجدعاء، وفي آخر: على ناقة خرماء. وفي آخر: مخضرمة (1).
قال أبو إسحاق الحربي: والعضب والجذع والخرم والقصو كله في الأذن. وقال أبو عبيدة: القصواء المقطوعة الأذن عرضًا، والمخضرمة: المستأصلة، والعضب: النصف فما فوقه. وقال الخليل: الخضرمة: قطع الأذن الواحدة.
وقوله: (كلما مرَّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها)؛ هكذا صحت الرواية. فقيل: هو تغيير وقلب في الكلام، وصوابه كما جاء في رواية أبي صالح، عن أبي هريرة:(كلما مر عليه أخراها رُدَّ عليه أولاها).
قيل: وهكذا يستقيم الكلام؛ لأنه إنما يريدُّ الأول الذي قد مرَّ قبلُ، وأما الآخر فلم يمرّ بعد، فلا يقال فيه: ردَّت.
قلت: ويظهر لي أن الرواية الصحيحة ليس فيها تغيير؛ لأن معناها: أن أول الماشية كلَّما وصلت إلى آخر ما تمشي عليه تلاحقت بها أخراها، ثم إذا أرادت الأولى الرجوع بدأت الأخرى بالرجوع، فعادت الأخرى أولى، حتى تنتهي إلى آخره. وهكذا إلى أن يقضي الله بين العباد، والله تعالى أعلم.
وقوله: (تَطَؤُه بأظلافها): جمع ظلف، وهو: الظُفر من كلِّ دابة مشقوقة الرِّجل، ومن الإبل: الخف. ومن الخيل والبغال والحمير: الحافر.
(1) هي التي قُطع طَرَفُ أذنها.
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! الخَيلُ؟ قَالَ: (الخَيلُ ثَلاثَةٌ، هِيَ لِرَجُلٍ وِزرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ سِترٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ أَجرٌ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ وِزرٌ. فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخرًا وَنِوَاءً عَلَى أَهلِ الإِسلامِ، فَهِيَ لَهُ وِزرٌ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ سِترٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ لَم يَنسَ حَقَّ اللهِ فِي ظُهُورِهَا وَلا رِقَابِهَا، فَهِيَ لَهُ سِترٌ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجرٌ؛ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ لأَهلِ الإِسلامِ فِي مَرجٍ وَرَوضَةٍ، فَمَا أَكَلَت مِن ذَلِكَ المَرجِ أَوِ الرَّوضَةِ مِن شَيءٍ إِلا كُتِبَ لَهُ
ــ
وقوله: (ونِوَاءً لأهل الإسلام)، وهو بكسر النون والمدّ؛ أي: مُعاداةً. يقال: ناوأته نِواءً ومُنَاوأة: إذا عاديته. والوزر: الإثم.
وقد تعلق أبو حنيفة ومن يقول بوجوب الزكاة في الخيل بقوله: (ولم ينس حق الله في رقابها)؛ قال: وحق الله هو الزكاة.
ولا حجة فيه؛ لأن ذكر الحقِّ هنا مجمل غير مفسَّر، ثم يقال بموجبه؛ إذ قد يتعين فيها حقوق واجبة لله تعالى (1) في بعض الأوقات: كإخراجها في الجهاد، وحمل عليها في سبيل الله، والإحسان إليها الواجب، والصدقة بما يكتسب عليها إن دعت إلى ذلك ضرورة.
وقوله: (فهي له ستر)؛ أي: حجابٌ من سؤال الغير عند حاجته لركوب فرس؛ بدليل قوله: (تَقَنّيًا وتَعَفُّفًا)؛ أي: عن الناس.
وقوله: (وأما التي هي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله)؛ أي: أعدَّها، وهو من الربط، ومنه: الرباط. وهو حبس الرجل نفسَه وعُدَّتَه في الثغور تجاه العدو. و (استَنَّت)؛ أي: رعَت، ومنه قولهم: استَنَّت الفصال حتى القرعى (2).
وقال ثابت: الاستنان: أن تَلجَّ في عدوها ذاهبة وراجعة.
والشرف: المرتفع من الأرض. وقال بعضهم: الشرف: الطَّلق، فكأنه يقول: جرت طلقًا، أو طلقين.
(1) ساقط من (ع).
(2)
هو مثل يُضرب للرجل يُدْخِل نفسه في قومٍ ليس منهم.
عَدَدَ مَا أَكَلَت حَسَنَاتٌ، وَكُتِبَ لَهُ أَروَاثِهَا وَأَبوَالِهَا حَسَنَاتٌ، وَلا تَقطَعُ طِوَلَهَا، فَاستَنَّت شَرَفًا أَو شَرَفَينِ إِلا كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا وَأَروَاثِهَا حَسَنَاتٍ، وَلا مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهرٍ فَشَرِبَت مِنهُ وَلا يُرِيدُ أَن يَسقِيَهَا إِلا كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَت حَسَنَاتٍ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! فَالحُمُرُ؟ قَالَ: مَا أُنزِلَ عَلَيَّ فِي الحُمُرِ شَيءٌ إِلا هَذِهِ الآيَةَ الفَاذَّةُ الجَامِعَةُ: فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ {وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
رواه أحمد (2/ 262 و 276)، ومسلم (987)(26)، وأبو داود (1658 و 1659)، والنسائي (5/ 12 و 13).
[857]
وَمِن حديث جَابِرِ قَالَ: (ولا صَاحِبِ كَنزٍ لا يَفعَلُ فِيهِ حَقَّهُ،
ــ
وقوله: (ولا يريد أن يسقيها)؛ أي: يمنعها من شرب يضرُّ بها أو به؛ باحتباسها للشرب، فيفوته ما يؤمله، أو يقع به ما يخافه.
وقوله: (ما أُنزل عليَّ في الحُمُر شيء إلا هذه الآية الفاذَّة الجامعة)؛ أي: القليلة المثل، المتفردة بمعناها. الجامعة؛ أي: العامة الشاملة. وهو حجة للقائلين بالعموم فإن لفظة شيء من صيغ العموم، وهو مذهب الجمهور من الفقهاء والأصوليين.
وهذا منه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه لم يفسِّر الله من أحكام الحُمُر وأحوالها، ما فسر له في الخيل والإبل وغيرها مما ذكره.
وقوله في حديث جابر: (ولا صاحب كنز)، قال الطبري: الكنز: كل شيء مجموع بعضه إلى بعض، في بطن الأرض كان أو على ظهرها. وقال ابن دريد: الكنز: كل شيء غَمَزتَهُ بيدك أو رِجلك في وعاء أو أرض.
قلت: وأصل الكنز: الضمُّ والجمع، ولا يختص ذلك بالذهب والفضة، ألا
إِلا جَاءَه كَنزُه يَومَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقرَعَ، يَتبَعُهُ فَاتِحًا فَاهُ، فَإِذَا أَتَاهُ فَرَّ مِنهُ،
ــ
ترى قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم (1) بخير ما يكنزه المرء: المرأة الصالحة) (2)؛ أي: يضمُّه لنفسه ويجمعه.
واختلف في المراد بالكنز في الآية، فقال أكثرهم: هو كلُّ مال وجبت فيه الزكاة، فلم تُؤدَّ منه، ولا أُخرجت. وكل ما أخرجت زكاتُه فليس بكنز. وقيل: كل ما زاد على أربعة آلافٍ فهو كنز، وإن أدِّيت زكاته. وقيل: هو ما فضُل عن الحاجة. ولعل هذا كان في أول الإسلام عند ضيق الحال عليهم، والقول الأول هو الصحيح؛ بدليل هذا الحديث، وبما خرَّجه أبو داود عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ} قال: كبُر ذلك على المسلمين، فقال عمر رضي الله عنه: أنا أفرّج عنكم، فانطلق، فقال: يا نبي الله! إنه كبُر على أصحابك هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليُطيِّبَ ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث - فذكر كلمة - لتكون لمن بعدكم، لتطيب لمن بعدكم)(3)، قال: فكَبّر عمر رضي الله عنه، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ألا أخبرك بخير ما يكنز المرءُ؟ المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرَّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته)(4).
وقوله: (إلا جاء يوم القيامة كنزهُ شجاعًا أقرع)، وفي أخرى:(إلا مثل)؛ أي: صُوّر له. وقيل: نُصِب وأقيم. من قولهم: مَثُلَ قائمًا؛ أي: منتصبًا. والشجاع من الحيات: هو الحية الذكر الذي يُواثب الفارس والراجل، ويقوم على ذنبه، وربما بلغ رأس الفارس، ويكون في الصحارى. وقيل: هو الثعبان. قال
(1) في (ع): أنبئكم.
(2)
رواه أبو داود (1664) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
(3)
ليس في سنن أبي داود.
(4)
سبق تخريجه قبل قليل.
فَيُنَادِيهِ خُذ كَنزَكَ الَّذِي خَبَأتَهُ فَأَنَا عَنهُ غَنِيٌّ، فَإِذَا رَأَى أَلَاّ بُدَّ مِنهُ، سَلَكَ يَدَهُ فِي فِيهِ فَيَقضَمُهَا قَضمَ الفَحلِ).
وَفِيهِ: قَالَ رَجُلٌ: مَا حَقُّ الإِبِلِ؟ قَالَ: (حَلَبُهَا عَلَى المَاءِ، وَإِعَارَةُ دَلوِهَا، وَإِعَارَةُ فَحلِهَا وَمَنِيحَتُهَا وَحَملٌ عَلَيهَا فِي سَبِيلِ اللهِ).
رواه أحمد (3/ 321)، ومسلم (988)(27)، والنسائي (5/ 27).
ــ
اللّحياني: يقال للحية: شجاع. وثلاثة أشجِعَة، ثم شُجعان. والأقرع من الحيات: الذي تَمَعَّط رأسه وابيَضَّ من السم، ومن الناس: الذي لا شَعر له في رأسه [لِتَقَرُّحِه].
وفي غير كتاب مسلم من الزيادة: (له زبيبتان)، وهما الزبيبتان في جانبي فيه من السم، ويكون مثلهما في شدقي الإنسان عند كثرة الكلام. وقيل: نكتتان على عينيه، وما هو على هذه الصفة من الحيات هو أشدّ أذى. قال الداودي: وقيل: هما نابان يخرجان من فِيه.
وقوله: (فيناديه: خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غنيٌ)؛ كذا وقع لنا فيما رأيناه من النسخ، وفي الكلام خرم يتلفق بتقدير محذوف، وهو: فيقول: فأنا عنه غنيٌ، وحينئذ يلتئم الكلام، فتأمَّله، وكثيرًا ما يحذف القول الذي للحكاية كقوله:{إِنَّمَا نُطعِمُكُم لِوَجهِ اللَّهِ} ؛ أي: يقولون: إنما.
وقوله: (فإذا رأى أن لا بدّ منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل)
معنى سلك: أدخل. ويقضمها: يأكلها. يقال: قَضَمَت الدابة شعيرها، تقضمه، والقضم بأطراف الأسنان، والخضم: بالفم كله. وقيل: القضم: أكل اليابس، والخضم: أكل الرطب، ومنه قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: تخضمون ونقضم والموعد الله.
وقوله: ما حق الإبل؟ فقال: (حلبها على الماء) إلخ. ظاهر هذا السؤال والجواب: أن هذا هو الحق المُتَوَعَّد عليه فيما تقدّم حين ذكر الإبل، وأنه
[858]
وَعَنِ الأَحنَفِ بنِ قَيسٍ قَالَ: قَدِمتُ المَدِينَةَ، فَبَينَا أَنَا فِي حَلقَةٍ فِيهَا مَلأٌ مِن قُرَيشٍ إِذ جَاءَ رَجُلٌ أَخشَنُ الثِّيَابِ، أَخشَنُ الجَسَدِ، أَخشَنُ الوَجهِ، فَقَامَ عَلَيهِم، فَقَالَ: بَشِّرِ الكَانِزِينَ بِرَضفٍ يُحمَى عَلَيهِ فِي نَارِ
ــ
كل الحق، مع أنه لم يتعرض فيه لذكر الزكاة.
وفي هذا الظاهر إشكال تزيله الرواية الأخرى التي ذكر فيها مِن التي هي للتبعيض، بل وقد جاء في رواية أخرى مفسَّرًا:(ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها)، وكذلك قال في الغنم، وكأن بعض الرواة أسقط في هذه الرواية من وهي مرادةٌ ولا بدّ.
ثم ظاهره: أن هذه الخصال واجبة، ولا قائل به مطلقًا. ولعلَّ هذا الحديث خرج على وقت الحاجة، ووجوب المواساة، وحال الضرورة، كما كان في أول الإسلام. ويكون معنى هذا الحديث: أنه مهما تعينت هذه الحقوق ووجبت، فلم تفعل؛ تعلق بالممتنع من فعلها هذا الوعيد الشديد، والله أعلم.
وقوله: (حلبها يومَ وِردها، وحلبها على الماء)، كل ذلك بسكون اللام على المصدر، وهو الأصل في مصدر ما كان على فَعل يَفعُل، وقد جاء على فَعَل - بفتح العين - في الحلب، فأمّا الحَلَب: اسم اللبن، فبالفتح لا غير، وليس هذا موضعه.
وخصَّ حلب الإبل بموضع الماء ليكون أقرب على المحتاج والجائع، فقد لا يقدر على الوصول لغير مواضع الماء.
والمنحة: قال ابن دريد: أصلها أن يعطي الرجلُ الرجلَ ناقته يشرب لبنها، أو شاة، ثم صارت كلُّ عطيةٍ منحة. قال الفرَّاء: يقال: منحته أمنحُه [وأمنحَه]- بالضم والكسر -.
وقال أبو هريرة: حق الإبل أن تَنحَرَ السمينة، وتَمنَحَ الغزيرة، ويُفقِر الظهر، ويطرق الفحل، ويسقى اللبن.
وإفقار الظهر: هو إعارة فقار المركوب، وهو الظهر، كما قد جاء في الرواية الأخرى.
وقول الأحنف بن قيس: إذ جاء رجلٌ أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه؛ كذا صح هنا من رواية الكرمي بالخاء والشين المعجمتين، من الخشونة على وزن أفعَل، إلا أنه عند ابن الحذَّاء في الآخر: حسن الوجه. وقد
جَهَنَّمَ، فَيُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَديِ أَحَدِهِم حَتَّى يَخرُجَ مِن نُغضِ كَتِفَيهِ وَيُوضَعُ عَلَى نُغضِ كَتِفَيهِ حَتَّى يَخرُجَ مِن حَلَمَةِ ثَديَيهِ يَتَزَلزَلُ. قَالَ: فَوَضَعَ القَومُ رُؤوسَهُم فَمَا رَأَيتُ أَحَدًا مِنهُم رَجَعَ إِلَيهِ شَيئًا، قَالَ: فَأَدبَرَ وَاتَّبَعتُهُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، فَقُلتُ: مَا رَأَيتُ هَؤُلاءِ إِلا كَرِهُوا مَا قُلتَ لَهُم، فَقَالَ:
ــ
رواه القابسي في البخاري: حسن الشعر والثياب والهيئة من الحسن. ولغيره: خشن من الخشونة، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
وقام عليهم: وقف عليهم. والملأ: الأشراف في أصله، وقد يقال على الجماعة، وهو مهموز مقصور.
وقوله: (بشر الكنازين)؛ أي: الجمَّاعين، ويروى: الكانزين، وهو بالنون عن الكنز. ووقع عند الهروي: الكاثرين، بالثاء المثلثة، [من الكثرة]، والأول أولى؛ لأنه إنما يقال للكثير المال: مكثر، لا كاثر. وأما الكاثر: فهو الشيء الكثير، يقال: كثير وكاثر وكُثَار، ومنه قول الشاعر (1):
. . . . . . . . . . . . . . .
…
فإنما العزة للكاثر (2)
والرضف: الحجارة المحمّاة. والحلمة: رأس الثدي للمرأة. والثندوة للرجل. ونُغض الكتف - بضم النون -: العظم الرقيق الذي في طرف الكتف، وهو الناغض، سمي بذلك لحركته، من قولهم: أنغض رأسه؛ أي: حرَّكه، ومنه قوله تعالى:{فَسَيُنغِضُونَ إِلَيكَ رُءُوسَهُم} ؛ أي: يحركونها استهزاءً.
ويتزلزل - بزائين معجمتين؛ أي: يتحرك، يعني: الرضف يتزلزل من النغض إلى الحلمة. ووضع الناس رؤوسهم: أطرقوا متخشِّعين، أو مستثقلين، يدل عليه قوله: إن هؤلاء لا يعقلون شيئًا. ولم يرجع؛ أي: لم يرد. وأُحُد: جبل
(1) هو الأعشى.
(2)
وصدره: ولست بالأكثر منهم حصى.
إِنَّ هَؤُلاءِ لا يَعقِلُونَ شَيئًا، إِنَّ خَلِيلِي أَبَا القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم دَعَانِي فَأَجَبتُهُ، فَقَالَ:(أَتَرَى أُحُدًا؟ ) فَنَظَرتُ مَا عَلَيَّ مِنَ الشَّمسِ، وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ يَبعَثُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ، فَقُلتُ: أَرَاهُ، فَقَالَ:(مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي مِثلَهُ ذَهَبًا أُنفِقُهُ كُلَّهُ إِلا ثَلاثَةَ دَنَانِيرَ)، ثُمَّ هَؤُلاءِ يَجمَعُونَ الدُّنيَا ولا يَعقِلُونَ شَيئًا، قَالَ: قُلتُ: مَا لك وَلإِخوَتِكَ قُرَيشٍ لا تَعتَرِيهِم وَتُصِيبُ مِنهُم، قَالَ: لا وَرَبِّكَ! لا أَسأَلُهُم عَن دِينَارٍ وَلا أَستَفتِيهِم عَن دِينٍ حَتَّى أَلحَقَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: بَشِّرِ الكَنَّازِينَ بِكَيٍّ فِي ظُهُورِهِم يَخرُجُ مِن جُنُوبِهِم،
ــ
معروف بالمدينة. واستفهامه له عن رؤيته لتحقق رؤيته حتى يُشّبه له به ما أراد بقوله: (ما يسرني أن لي مثله ذهبا).
وقوله: إلا ثلاثة دنانير؛ يعني: دينارًا يرصده لدين؛ أي: يؤخره. ودينارًا لأهله، ودينارًا لإعتاق رقبة، والله أعلم.
وقوله: ثم هؤلاء ظاهر احتجاج أبي ذر بهذا الحديث وشبهه: أن الكنز المتوعَّد عليه هو جمع ما فضل عن الحاجة، وهكذا نقل من مذهبه، وهو من شدائده رضي الله عنه، ومما انفرد به. وقد روي عنه خلافُ ذلك، وحمل إنكاره هذا على ما أخذه السلاطين لأنفسهم، وجمعوه لهم من بيت المال وغيره، ولذلك هجرهم، وقال: لا أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين، والله أعلم.
ويعتريهم: يزورهم ويأتيهم بطلب منهم، ومنه قوله تعالى:{وَأَطعِمُوا القَانِعَ وَالمُعتَرَّ} وهو الزائر، يقال منه: أعروته واعتريته؛ أي: أتيته أطلب منه حاجة.
وهذا الحديث يدل على تفضيل الفقر على الغنى، وقد تقدمت المسألة.
والعطاء الذي سئل عنه أبو ذر؛ هو ما يعطاه الرجل من بيت المال على وجهٍ
وَبِكَيٍّ مِن قِبَلِ أَقفَائِهِم يَخرُجُ مِن جِبَاهِهِم، قَالَ: ثُمَّ تَنَحَّى فَقَعَدَ، قَالَ: قُلتُ: مَن هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ، قَالَ: فَقُمتُ إِلَيهِ، فَقُلتُ: مَا شَيءٌ سَمِعتُكَ تَقُولُ قُبَيلُ؟ قَالَ: مَا قُلتُ إِلا شَيئًا قَد سَمِعتُهُ مِن نَبِيِّهِم صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُلتُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا العَطَاءِ؟ قَالَ: خُذهُ؛ فَإِنَّ فِيهِ اليَومَ مَعُونَةً فَإِذَا كَانَ ثَمَنًا لِدِينِكَ فَدَعهُ.
رواه أحمد (5/ 160)، والبخاري (1107)، ومسلم (992).
* * *
ــ
يستحقُّه، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:(ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك)(1).
وقوله: فإذا كان ثمنًا لدِينِك فدعه؛ أي: إذا كنت لا تتوصل إليه إلا بوجه غير جائز، فلا تلتفت إليه، فإن سلامة الدِّين أهمُّ من نيل الدنيا، فكيف إذا انتهى الأمر، إلا أن لا يسلم دِين ولا تنال دنيا؟ ! ومن أخسر صفقة ممن خسر الآخرة والأولى؟ ! نعوذ بالله من سخطه.
* * *
(1) ذكره صاحب التمهيد (2/ 17).