الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد رواه من طريقين، ولم يذكر: وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
رواه مسلم (1774)، والترمذي (2718).
* * *
(20) باب في غزاة حنين وما تضمنته من الأحكام
[1291]
عن عَبَّاس بن عبد المطلب، قال: شَهِدتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَومَ حُنَينٍ، فَلَزِمتُ أَنَا وَأَبُو سُفيَانَ بنُ الحَارِثِ بنِ
ــ
رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك، حيث نعاه لهم، وقال:(إن أخًا لكم بأرض الحبشة قد مات، فقوموا، فصلوا عليه (1))؛ كما تقدَّم في الجنائز، وإنما النجاشي الذي كاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر غير هذا من ملوك الحبشة، إما في جهة أخرى، أو بعد موت أصحمة. والله تعالى أعلم.
وهذه الأحاديث كلها تدل على جواز مفاتحة الكفار بالمكاتبة. وهو حكم لم يختلف فيه.
(20)
ومن باب: غزوة حنين
كانت غزوة حنين (2) بعد فتح مكة بأيام، وذلك أن مكة فتحت لعشر بقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة، وكانت وقعة هوازن يوم حنين في أول شوَّال من
(1) سبق تخريجه.
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
عَبدِ المُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم، فَلَم نُفَارِقهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغلَةٍ لَهُ بَيضَاءَ، أَهدَاهَا لَهُ فَروَةُ بنُ نُفَاثَةَ الجُذَامِيُّ، فَلَمَّا التَقَى المُسلِمُونَ وَالكُفَّارُ وَلَّى المُسلِمُونَ مُدبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَركُضُ بَغلَتَهُ قِبَلَ الكُفَّارِ. قَالَ
ــ
تلك السَّنة. و (حنين): موضع معروف، سُمِّي باسم رجل لازمه، ويصرف ولا يصرف. وأنشد في الصحاح:
نصروا نبيهم وشدوا أزره
…
بحنين يوم تواكل الأبطال
والأغلب عليه الصرف.
و(فروة بن نفاثة) صوابه: بالنون المرفوعة، والفاء، والثاء المثلثة. كذا لجميع الرواة. وقد قيده (1) بعضهم:(نباتة) بالنون والباء بواحدة، والتاء باثنتين من فوقها، وكأنه تصحيف، وقد رواه مسلم من حديث معمر عن ابن شهاب. فقال: فروة بن نعامة، والأول أشهر. واختلف في إسلامه. وفي البخاري: أن مُهدي البغلة للنبي صلى الله عليه وسلم ملك أيلة، واسمه فيما ذكره ابن إسحاق: يُحَنَّة بن رؤبة (2).
وقبوله صلى الله عليه وسلم هدية فروة يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: (إني نهيت عن زبد المشركين)(3)، وامتنع من قبول هديتهم.
وقد اختلف في هذين الحديثين. فمن العلماء من ذهب إلى أن حديث فروة ناسخ للحديث الآخر. ومنهم من رام الجمع بينهما فقال: حيث قبل فإنما قبل استئلافًا، وطمعًا في إسلام المُهدي، وحيث رد لم يطمع في
(1) في (هـ) و (ط): شذ.
(2)
في (ل): روزنة، وفي (هـ): روزبة، والمثبت من (ع) و (ج) وتاريخ الطبري (3/ 108).
(3)
رواه أبو داود (3057)، والترمذي (1577) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه. و "الزَّبْد" الرِّفْد والعطاء.
عَبَّاسٌ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغلَةِ رَسُولِ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم، أَكُفُّهَا إِرَادَةَ أَن لَا تُسرِعَ، وَأَبُو سُفيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم: أَي عَبَّاسُ، نَادِ أَصحَابَ السَّمُرَةِ. فَقَالَ عَبَّاسٌ، وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا، فَقُلتُ بِأَعلَى صَوتِي: أَينَ أَصحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّ عَطفَتَهُم حِينَ سَمِعُوا
ــ
ذلك. وقيل: إنما رد حيث لم تكن فيه مصلحة للمسلمين، وقيل حيث كان فيه ذلك. وقيل: إنما رد (1) ما أهدي له في خاصة نفسه، وقبل ما علم منه خلاف ذلك؛ قاله الطبري. قال (2): ولا حجة لمن احتج بنسخ أحد الحديثين للآخر؛ إذ لم يأت في ذلك بيان. وقيل: إنما قبل هدية أهل الكتاب؛ إذ قد أبيح لنا طعامهم، ورد هدايا المشركين؛ إذ لم يبح لنا ذلك منهم. وأشبه هذه الأقوال قول من قال بالاستئلاف والمصلحة. والكل محتمل. والله تعالى أعلم.
وركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في ذلك الموطن مبالغة في الثبات، والصبر، ويدل على العزم على عدم الفرار كما قد فعل حين انهزم الناس عنه، وهو مقبل على العدو، يركض بغلته نحوهم. وقد زاد على ذلك، كما ذكر في الرواية الأخرى: إنه نزل بالأرض على عادة الشجعان في المنازلة. وهذا كله يدل: على أنه صلى الله عليه وسلم كان أشجع الناس وأثبتهم في الحرب، ولذلك قالت الصحابة رضي الله عنهم: إن الشجاع منا للذي يلوذ بجانبه.
و(السمرة): هي شجرة الرضوان التي بايعه تحتها أصحابه (3) بيعة الرضوان بالحديبية. وكانوا بايعوه على ألا يفرُّوا، فلما سمعوا النداء، تذكروا العهد، فارتجعوا رجعة واحدة، كرجل واحد، وهم يلبون النبي صلى الله عليه وسلم، ولسرعة رجعتهم
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
(2)
غير مثبتة في (هـ) و (م).
(3)
كذا في (ع) وفي بقية النسخ: أصحاب.
صَوتِي عَطفَةُ البَقَرِ عَلَى أَولَادِهَا، قال: فَقَالَوا: يَا لَبَّيكَ يَا لَبَّيكَ. فَاقتَتَلُوا وَالكُفَّارَ، وَالدَّعوَةُ فِي الأَنصَارِ، يَقُولُونَ: يَا مَعشَرَ الأَنصَارِ، يَا مَعشَرَ الأَنصَارِ، قَالَ: ثُمَّ قُصِرَت الدَّعوَةُ عَلَى بَنِي الحَارِثِ بنِ الخَزرَجِ، فَقَالَوا: يَا بَنِي الحَارِثِ بنِ الخَزرَجِ، يَا بَنِي الحَارِثِ بنِ الخَزرَجِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى بَغلَتِهِ كَالمُتَطَاوِلِ عَلَيهَا إِلَى قِتَالِهِم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا حِينَ حَمِيَ الوَطِيسُ، قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
ــ
واجتماعهم شبههم بعطفة (1) البقر على أولادها. وهذا كله يدل على قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، وأن انهزامهم لم يكن إلى بُعد، ولا من جميعهم، بل المنهزم إنما كان أكثرهم من أهل مكة والطلقاء، ومن في قلبه مرض، ولذلك كان بعضهم يقول في حال انهزامه: لا يردهم إلا البحر.
وقوله: (فاقتتلوا والكفار) بنصب الراء على أن تكون الواو بمعنى (مع) وهو أولى؛ لما يلزم في الأحسن من توكيد الضمير المرفوع حين يعطف عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم هذا حين حمي الوطيس يجوز في حين البناء على الفتح؛ لأنه مضاف إلى جملة مبنية، ويجوز فيه الضم، على أن يكون (الحين) خبر المبتدأ، وهذا على نحو قول الشاعر (2):
على حين عاتبت المشيب على الصبا (3)
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
روي بالخفض والفتح. و (حمي): استعر واتقد. و (الوطيس): موضع
(1) في (ع): برجعة.
(2)
هو النابغة الذبياني.
(3)
وعجز البيت: فقلتُ: ألمَّا أصْحُ والشَّيبُ وازعُ.
حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: انهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ. قَالَ: فَذَهَبتُ أَنظُرُ، فَإِذَا القِتَالُ عَلَى هَيئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَن رَمَاهُم بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلتُ أَرَى حَدَّهُم كَلِيلًا، وَأَمرَهُم مُدبِرًا.
وَفِي رواية: انهَزموا ورب الكعبة! انهزموا ورب الكعبة! حتى هزمهم الله. قال: وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته.
رواه أحمد (1/ 207)، ومسلم (1775)(76 و 77).
ــ
وقود النار، واستعاره هنا لشدة الحرب. وهذا نحو قوله تعالى:{كُلَّمَا أَوقَدُوا نَارًا لِلحَربِ أَطفَأَهَا اللَّهُ} وهذه الاستعارة العجيبة لا يُعرف من تكلم بها قبل النبي صلى الله عليه وسلم من العرب، ومنه تلقيت فصيرت مثلًا في الأمر إذا اشتد، قاله ابن الأعرابي. وقال الأصمعي: الوطيس: الحجارة المحمَّاة. وعلى هذا فهو جمع وطيسة. وقال أبو عمر المطرّز: هو التنور. وحينئذ لا يكون جمعًا.
ورميه صلى الله عليه وسلم في وجوه الكفار بالتراب، وإصابته أعين جميعهم من أعظم معجزاته؛ إذ ليس في قوة البشر إيصال ذلك إلى أعينهم، ولا يسع كفه ما يعمهم، وإنما كان ذلك من صنع الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال تعالى:{وَمَا رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وكذلك قوله: (انهزموا ورب الكعبة) قبل وقوع الهزيمة، هو من معجزاته الخبرية، فإنه خبر عن الغيب.
وقوله: (شاهت الوجوه) - على ما في حديث سلمة -: خبر معناه: الدعاء؛ أي: اللهم شوّه وجوههم. أو هو: خبر عما يحل بهم من التشويه عند القتل، والأسر، والانتقام.
و(الحسر): جمع حاسر، وهو الذي لا درع معه، ولا شيء يتقي به النبل.
[1292]
وعَن أَبِي إِسحَاقَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلبَرَاءِ: يَا أَبَا عُمَارَةَ، فَرَرتُم يَومَ حُنَينٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّانُ أَصحَابِهِ وَأَخِفَّاؤُهُم حُسَّرًا لَيسَ عَلَيهِم سِلَاحٌ، أَو كَثِيرُ سِلَاحٍ، فَلَقُوا قَومًا رُمَاةً لَا يَكَادُ يَسقُطُ لَهُم سَهمٌ، جَمعَ هَوَازِنَ وَبَنِي نَصرٍ، فَرَشَقُوهُم رَشقًا مَا يَكَادُونَ يُخطِئُونَ، فَأَقبَلُوا هُنَاكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغلَتِهِ البَيضَاءِ، وَأَبُو سُفيَانَ بنُ الحَارِثِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ، فَنَزَلَ فَاستَنصَرَ فَقَالَ:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِب
…
أَنَا ابنُ عَبدِ المُطَّلِب
ــ
و(الأخفاء): المسرعون، المستعجلون. وقد رواه الحربي، والمغربي:(جفاء من الناس) بجيم مضمومة مخففة والمد، وفسَّره المهدوي بالسراع، شبههم بجفاء السيل، وهو غثاؤه. وقال غيره: إنما أراد به أخلاط الناس، وضعفاءهم ممن لم يقصد القتال، بل الغنيمة، وفي قلبه مرض، شبههم بغثاء السيل، وهو ما احتمله السيل.
و(استنصر)؛ أي: سأل النصر، ودعا به.
وقوله: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)؛ أي: أنا النبي المعروف عند علماء الكتاب، المنعوت في كتبهم حقًّا بلا كذب. وانتسابه لعبد المطلب؛ لأنه بذلك كان شهر (1) عندهم؛ لأن أباه عبد الله مات وتركه حملًا، فولد، ونشأ في حجر جدِّه عبد المطلب، ثم إن عبد المطلب أحبه حبًّا شديدًا، بحيث كان يفضله على أولاده، لما كان ظهر له من بركاته، وكراماته، فكان يلازمه لذلك، فعرف به، ولذلك ناداه ضمام بن ثعلبة: يا بن عبد المطلب! فانتمى هو عند الحرب على عادة الشجعان في انتسابهم لمن كان يعرف به (2). وقيل: إنما كان ذلك منه
(1) في (ع): أشهر.
(2)
في (ع): كانوا يعرفون بهم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تنبيهًا على ما قال سيف بن ذي يزن لعبد المطلب حين قدم عليه في وفد قريش، حيث بشره بأنه يكون من ولده نبي يقتل أعداءه. ولم يكن ذلك منه صلى الله عليه وسلم على جهة الافتخار بآبائه، فإن ذلك من خلق الجاهلية التي قد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وحرَّمها، وذمَّ من انتمى إليها.
لا يقال؛ يصح أن ينسب هذا الشعر للنبي صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمنَاهُ الشِّعرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} ؛ لأنا نجيب عن ذلك بأوجه:
أحدها: أن هذا قصد به السجع لا الشعر، فليس بشعر. قيل (1) قد قال الأخفش: إن هذا رجز، والرجز ليس من الشعر.
والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد نظمًا ووزنًا فيكون شعرًا، فقد يأتي في الكلام والقرآن ما يتزن بوزن الشعر وليس بشعر، كقوله تعالى:{لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وقوله: {نَصرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتحٌ قَرِيبٌ} وكثيرا ما يقع للعوام في كلامهم المقفى الموزون، وليس بشعر، ولا يسمى قائله شاعرًا؛ لأنه لم يقصده، ولا شعر به (2). والشعر إنما سمي بذلك؛ لأن قائله يشعر به ويقصده نظمًا، ووزنًا، ورويًا، وقافية، ومعنى.
والثالث: على تسليم أن هذا شعر فلا يلزم منه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عالِمًا بالشعر، ولا شاعرًا؛ فإن التمثل بالبيت الندر، وإصابة القافيتين من الرجز وغيره؛ لا يوجب أن يكون قائلها عالمًا بالشعر، ولا يسمى شاعرًا باتفاق العقلاء. وأما الذي نفى الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم فهو العلم بالشعر، وأصنافه، وأعاريضه، وقوافيه،
(1) فيِ (ع) و (ج): بل.
(2)
"شَعُر": اكتسب ملكة الشِّعر فأجاده.
-زاد في رواية: اللَّهُمَّ نَزِّل نَصرَكَ- قال: ثم صفهم. قَالَ البَرَاءُ: كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا احمَرَّ البَأسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا الَّذِي يُحَاذِي بِهِ، يَعنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
وَفِي رواية: وَلَكِن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَم يَفِرَّ، وَكَانَت هَوَازِنُ يَومَئِذٍ رُمَاةً،
ــ
والاتصاف بقوله، ولم يكن موصوفًا بشيء من ذلك بالاتفاق، ألا ترى أن قريشًا تراوضت فيما يقولون (1) للعرب فيه إذا قدموا عليهم الموسم، فقال بعضهم: نقول: إنه شاعر. فقال أهل الفطنة منهم: والله لتكذبنكم العرب، فإنهم يعرفون أصناف الشعر، فوالله ما يشبه شيئا منها، وما قوله بشعر. وقال أنيس أخو أبي ذر: لقد وضعت قوله على أقراء الشعر (2) فلم يلتئم أنه شعر. وكان أنيس من أشعر العرب. وهذا الوجه هو المعتمد في الانفصال. والله تعالى أعلم.
وفائدة قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا النبي لا كذب) إلى آخره؛ جواز الانتماء عند الحرب، كما قال سلمة بن الأكوع: خذها وأنا ابن الأكوع. وقد روي ذلك عن جماعة من السَّلف. وقال ابن عبد الحكم من أصحابنا: إنما يكره أن يكون ذلك على وجه الكبر، والافتخار، كما كانت الجاهلية تفعل.
وقوله- أعني البراء -: (كنا إذا احمر البأس نتقي به)؛ هذا كناية عن شدة الحرب، إما لحمرة دم الجرحى والقتلى. وإما لتشبيه ذلك بحمرة جمرة النار. و (البأس) هنا: الحرب.
وقوله: (ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرّ)؛ هذا هو المعلوم من حاله، وحال الأنبياء صلى الله عليه وعليهم وسلم؛ من إقدامهم، وشجاعتهم، وثقتهم بوعد
(1) ساقطة من (ع).
(2)
"أقراء الشعر": قوافيه التي يختم بها (اللسان).
وَإِنَّا لَمَّا حَمَلنَا عَلَيهِم انكَشَفُوا، فَاَنكبَبنَا عَلَى الغَنَائِمِ، فَاستَقبَلُونَا بِالسِّهَامِ.
رواه أحمد (4/ 281)، والبخاري (2874)، ومسلم (1776)(78 و 79 و 80)، والترمذي (1688).
[1293]
وعن سَلَمَةَ بن الأكوع قَالَ: غَزَونَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُنَينًا، فَلَمَّا وَاجَهنَا العَدُوَّ تَقَدَّمتُ فَأَعلُو ثَنِيَّةً، فَاستَقبَلَنِي رَجُلٌ مِن العَدُوِّ فَأَرمِيهِ بِسَهمٍ، فَتَوَارَى عَنِّي، فَمَا دَرَيتُ مَا صَنَعَ، وَنَظَرتُ إِلَى القَومِ فَإِذَا هُم قَد طَلَعُوا مِن ثَنِيَّةٍ أُخرَى، فَالتَقَوا هُم وَصَحَابَةُ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم، فَوَلَّى صَحَابَةُ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم، وَأَرجِعُ مُنهَزِمًا، وَعَلَيَّ بُردَتَانِ مُتَّزِر بِإِحدَاهُمَا، مُرتَد بِالأُخرَى، فَاستَطلَقَ إِزَارِي، فَجَمَعتُهُمَا جَمِيعًا، وَمَرَرتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنهَزِمًا، وَهُوَ
ــ
الله تعالى، ورغبتهم في الشهادة، وفي لقاء الله تعالى. ولم يثبت قط عن واحد منهم: أنه فرَّ، أو انهزم (1)، ومن قال ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: فرَّ أو انهزم؛ قتل، ولم يستتب؛ لأنه صار بمنزلة من قال: إنه صلى الله عليه وسلم كان أسود، أو أعجميًا، فأنكر ما علم من وصفه قطعًا، وكذب به، وذلك كفر، ولأنه قد أضاف إليه نقصًا وعيبًا (2). وقد حكى أصحابنا الإجماع على قتل من أضاف إليه نقصًا أو عيبًا. وقيل: يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل.
وقول سلمة: (ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزمًا)(3)؛ يفهم منه ثبوت النبي صلى الله عليه وسلم، وتوجهه نحو الكفار، بل كان يركض بغلته نحوهم، ولما غشيه القوم، نزل عن البغلة، وثبت لهم قائمًا، حتى تراجع الناس إليه عند نداء العباس. ولم يسمع لأحد من الشجعان مثل هذا. والله تعالى أعلم.
(1) في (ج): ولا انهزم.
(2)
أراد المؤلف رحمه الله بالنقص والعيب نسبة الفرار إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
(3)
(منهزمًا) حال، وصاحب الحال التاء من قوله:(مررتُ) أي: أنَّ المنهزم كان سلمة.
عَلَى بَغلَتِهِ الشَّهبَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم: لَقَد رَأَى ابنُ الأَكوَعِ فَزَعًا. فَلَمَّا غَشُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَن البَغلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبضَةً مِن تُرَابٍ مِن الأَرضِ، ثُمَّ استَقبَلَ بِهِ وُجُوهَهُم، فَقَالَ: شَاهَت الوُجُوهُ. فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنهُم إِنسَانًا إِلَّا مَلَأَ الله عَينَيهِ تُرَابًا بِتِلكَ القَبضَةِ، فَوَلَّوا مُدبِرِينَ، فَهَزَمَهُم اللَّهُ، وَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَهُم بَينَ المُسلِمِينَ.
رواه مسلم (1777).
[1294]
وعَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: افتَتَحنَا مَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّا غَزَونَا حُنَينًا. قال: فَجَاءَ المُشرِكُونَ بِأَحسَنِ صُفُوفٍ رَأَيتُ قَالَ: فَصُفَّت الخَيلُ، ثُمَّ صُفَّت المُقَاتِلَةُ، ثُمَّ صُفَّت النِّسَاءُ مِن وَرَاءِ ذَلِكَ، ثُمَّ صُفَّت الغَنَمُ، ثُمَّ صُفَّت النَّعَمُ قَالَ: وَنَحنُ بَشَرٌ كَثِيرٌ. قَد بَلَغنَا سِتَّةَ آلَافٍ، وَعَلَى مُجَنِّبَةِ خَيلِنَا خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ قَالَ: فَجَعَلَت خَيلُنَا تَلوِذ خَلفَ ظُهُورِنَا، فَلَم نَلبَث أَن انكَشَفَت خَيلُنَا وَفَرَّت الأَعرَابُ، وَمَن نَعلَمُ مِن النَّاسِ. قَالَ: فَنَادَى رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم يَا للمُهَاجِرِينَ يَا للمُهَاجِرِينَ ثُمَّ قَالَ: يَا لَلأَنصَارِ يَا للأَنصَارِ قَالَ أَنَسٌ: هَذَا حديث عِمِّيَّه قَالَ: قُلنَا: لَبَّيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
ــ
وقوله: (ونحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف)؛ هذا من أنس تقدير لا تحقيق، إن لم يكن غلطًا من بعض الرواة. وَأَصَحُّ مِن هَذِهِ الرِّوَايَةِ الرِّوَايَةُ الأُخرَى الَّتِي فِيهَا: أَنَّهُم كَانُوا عَشرَةَ آلَافٍ غَيرَ الطُّلَقَاءِ. وسموا بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقهم عند فتح مكة، وهم غير العتقاء. والعتقاء: هم السبعون أو الثمانون (1) الذين راموا أن يغدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعسكره يوم الحديبية فأخذوا، وأعتقوا، فسمُّوا: العتقاء بذلك. قاله أبو عمر بن عبد البر.
وقول أنس بن مالك: (هذا حديث عميّه)؛ يعني: عمي، وزاد هاء السكت
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع) و (ج).
قَالَ: فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَايمُ اللَّهِ ومَا أَتَينَاهُم حَتَّى هَزَمَهُم اللَّهُ، فَقَبَضنَا ذَلِكَ المَالَ، ثُمَّ انطَلَقنَا إِلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرنَاهُم أَربَعِينَ لَيلَةً، ثُمَّ رَجَعنَا إِلَى مَكَّةَ فَنَزَلنَا قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم يُعطِي الرَّجُلَ المِائَةَ. وذَكَرَ الحديث نَحوِ ما تقدم.
وفي رواية: وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَومَئِذٍ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَمَعَهُ الطُّلَقَاءُ فَأَدبَرُوا عَنهُ حَتَّى بَقِيَ وَحدَهُ قَالَ: فَنَادَى يَومَئِذٍ نِدَاءَينِ لَم يَخلِط بَينَهُمَا شَيئًا قَالَ: فَالتَفَتَ عَن يَمِينِهِ فَقَالَ: يَا مَعشَرَ الأَنصَارِ! فَقَالُوا: لَبَّيكَ
ــ
التي تثبت في الوقف. يعني بذلك: أن نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يال (1) المهاجرين) إنما رواه عن عمه.
وقوله: (فايم الله ما أتيناهم حتى هزمهم الله)؛ يعني بذلك: أنه (2) ما رجع أوّل المنهزمة حتى هزم الله العدو على أيدي المتسارعين إلى النداء من المهاجرين والأنصار الذين قاتلوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تطاول عليهم وقال: (الآن حمي الوطيس)(3)، وبعد أن رمى الحصا في وجوههم، وقال:(شاهت الوجوه)؛ كما تقدم.
وقوله في الرواية الأخرى: (فأدبروا عنه حتى بقي وحده)؛ يعني به: المقاتلين، وإلا فقد ثبت أنه كان بقي معه العباس وأبو سفيان.
وقوله: (فنادى يومئذ نداءين)؛ هذان النداءان من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان (4) بعد
(1) كذا في جميع النسخ بلام مفصولة مفتوحة، والمعروف وَصْلها بلام التعريف التي بعدها. ولعلَّ المقصود: يا آلَ المهاجرين.
(2)
من (ج).
(3)
الرواية التي فيها كلمة (الآن) هي رواية أحمد بن حنبل في مسنده (1/ 207).
(4)
كذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: كانا.