الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(59) باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها
[1228]
عَن أَبِي سَعِيدٍ مَولَى المَهرِيِّ أَنَّهُ أَصَابَهُم بِالمَدِينَةِ جَهدٌ وَشِدَّةٌ، وَأَنَّهُ أَتَى أَبَا سَعِيدٍ الخُدرِيَّ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي كَثِيرُ العِيَالِ، وَقَد أَصَابَتنَا شِدَّةٌ، فَأَرَدتُ أَن أَنقُلَ عِيَالِي إِلَى بَعضِ الرِّيفِ! فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَا تَفعَل، الزَم المَدِينَةَ، فَإِنَّا خَرَجنَا مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَظُنُّ أَنَّهُ قَالَ: حَتَّى قَدِمنَا عُسفَانَ - فَأَقَامَ بِهَا لَيَالِيَ، فَقَالَ النَّاسُ: وَاللَّهِ مَا نَحنُ هَاهُنَا فِي شَيءٍ وَإِنَّ عِيَالَنَا لَخُلُوفٌ مَا نَأمَنُ عَلَيهِم، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي يبَلَغَنِي مِن حَدِيثِكُم - مَا أَدرِي كَيفَ قَالَ - وَالَّذِي أَحلِفُ بِهِ - أَو وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ - لَقَد هَمَمتُ - أَو إِن شِئتُم، لَا أَدرِي أَيَّتَهُمَا قَالَ - لَآمُرَنَّ بِنَاقَتِي تُرحَلُ ثُمَّ لَا أَحُلُّ لَهَا عُقدَةً حَتَّى أَقدَمَ المَدِينَةَ. وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ إِبرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ
ــ
(59)
ومن باب: الترغيب في سكنى المدينة
قوله إن أهلنا لخلوف بضم الخاء المعجمة من فوقها؛ أي: لا حافظ لهم ولا حامي، يقال: حيٌّ خلوف - أي: غاب عنهم رجالهم.
وقوله لآمرنَّ بناقتي ترحَّل مشدَّدة الحاء؛ أي: يجعل عليها الرَّحل.
وقوله ثم لا أحل لها - أو عنها - عقدة؛ أي: أَصِلُ المشي والإسراع، وذلك لمحبته الكون (1) في المدينة وشدَّة شوقه إليها، وقد تقدَّم الكلام في المأزِمَين.
(1) أي: الوصول إليها والاستقرار فيها.
فَجَعَلَهَا حَرَمًا، وَإِنِّي حَرَّمتُ المَدِينَةَ حَرَامًا مَا بَينَ مَأزِمَيهَا؛ أَلَّا يُهرَاقَ فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُحمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا تُخبَطَ فِيهَا شَجَرَةٌ إِلَّا لِعَلفٍ، اللَّهُمَّ بَارِك لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ بَارِك لَنَا فِي صَاعِنَا، اللَّهُمَّ بَارِك لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ بَارِك لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ اجعَل مَعَ البَرَكَةِ بَرَكَتَينِ، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا مِن المَدِينَةِ شِعبٌ وَلَا نَقبٌ إِلَّا عَلَيهِ مَلَكَانِ يَحرُسَانِهَا حَتَّى تَقدَمُوا إِلَيهَا.
ــ
وقوله لا يُحمل فيها سلاح، ولا تُخبط فيها شجرة، هذا كله يقضي بالتسوية (1) بين حرم المدينة وحرم مكة، وهو ردٌّ على أبي حنيفة على ما تقدَّم.
وقوله إلا لعلف، لم يذكر هذا الاستثناء في شجر مكة، وهو أيضا جار فيها ولا فرق بينهما، وكذلك ذكر في مكة إلا الإذخر ولم يذكره في المدينة، وهو أيضًا جارٍ فيها؛ إذ لا فرق بين الحرمين. والحاصل من الاستثنائين أن ما دعت الحاجة إليه من العلف والانتفاع بالحشيش جاز تناوله على وجه المس والرفق من غير عنف ولا كسر غصن، وهو حجة على من منع شيئًا من ذلك.
وقوله ما من المدينة شِعبٌ ولا نقبٌ إلا عليه ملكان يحرسانها، الشِعب - بكسر الشين: هو الطريق في الجبل، قاله يعقوب وغيره. والنقب - بفتح النون وضمها: هو الطريق على رأس الجبل. وقيل: هو الطريق ما بين الجبلين. وقال الأخفش: أنقاب المدينة طرقها وفجاجها. وما يهيجهم؛ أي: ما يحركهم. يقال: هاج الشيء وهجته، وهاجت الحرب وهاجها الناس؛ أي: حركوها وأثاروها. وبنو عبد الله بن غطفان كانوا يُسمَّون في الجاهلية بني عبد العزّى، سمَّاهم النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد الله فسمتهم العرب بني محولة لتحويل اسمهم، وفي هذا ما يدل على أن حراسة الملائكة للمدينة إنما كان إذ ذاك في مدة غيبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنها نيابة عنهم.
(1) في (ز): يقتضي التسوية.
ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: ارتَحِلُوا - فَارتَحَلنَا فَأَقبَلنَا إِلَى المَدِينَةِ، فَوَالَّذِي يَحلِفُ بِهِ - أَو نحلَفُ بِهِ، الشَّكُّ مِن حَمَّادٍ - مَا وَضَعنَا رِحَالَنَا حِينَ دَخَلنَا المَدِينَةَ حَتَّى أَغَارَ عَلَينَا بَنُو عَبيدِ اللَّهِ بنِ غَطَفَانَ، وَمَا يَهِيجُهُم قَبلَ ذَلِكَ شَيءٌ.
رواه أحمد (3/ 34 و 47)، ومسلم (1374)(475).
[1229]
وعنه أَنَّهُ جَاءَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدرِيَّ لَيَالِي الحَرَّةِ فَاستَشَارَهُ فِي الجَلَاءِ مِن المَدِينَةِ، وَشَكَا إِلَيهِ أَسعَارَهَا وَكَثرَةَ عِيَالِهِ، وَأَخبَرَهُ أَلَّا صَبرَ لَهُ عَلَى جَهدِ المَدِينَةِ وَلَأوَائِهَا، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَصبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَأوَائِهَا وشدتها فَيَمُوتَ إِلَّا كُنتُ لَهُ شَفِيعًا - أَو
ــ
وقوله ليالي الحرة يعني به حرة المدينة، كان بها مقتلة عظيمة في أهل المدينة، كان سببها أن ابن الزبير وأكثر أهل الحجاز كرهوا بيعة يزيد بن معاوية، فلما مات معاوية وجَّه يزيدُ مسلمَ بنَ عقبة المدني في جيشٍ عظيم من أهل الشام فنزل بالمدينة فقاتل أهلها، فهزمهم وقتلهم بحرَّة المدينة قتلًا ذريعًا، واستباح المدينة ثلاثة أيام، فسميت وقعة الحرَّة بذلك، ثم إنه توجه بذلك الجيش يريد مكة، فمات مسلم بقديد، وولي الجيش الحصين بن نمير وسار إلى مكة، وحاصر ابن الزبير، وأحرقت الكعبة حتى انهدم جدارها وسقط سقفها، فبينما هم كذلك بلغهم موت يزيد فتفرقوا، وبقي ابن الزبير بمكة إلى زمان الحجاج وقتله لابن الزبير رضي الله عن ابن الزبير.
والجلاء - بفتح الجيم والمد - الانتقال من موضع إلى آخر، والجلاء - بكسر الجيم والمد - هو جلاء السيف والعروس، والجلا - بفتح الجيم والقصر - هو جلاء الجبهة وهو انحسار الشعر عنها، يقال: رجل أجلى وأجلح.
شَهِيدًا - يَومَ القِيَامَةِ إِذَا كَانَ مُسلِمًا.
رواه مسلم (1374)(477).
[1230]
وَعَن عَائِشَةَ قَالَت: قَدِمنَا المَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيئَةٌ، فَاشتَكَى أَبُو بَكرٍ، وَاشتَكَى بِلَالٌ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَكوَى أَصحَابِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّب إِلَينَا المَدِينَةَ كَمَا حَبَّبتَ مَكَّةَ أَو أَشَدَّ، وَصَحِّحهَا وَبَارِك لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَحَوِّل حُمَّاهَا إِلَى الجُحفَةِ.
رواه أحمد (6/ 56)، والبخاري (1889)، ومسلم (1376).
ــ
وقوله إذا كان مسلمًا يُقَيّد ما تقدَّم من مطلقات هذه الألفاظ، ويُنَبَّه على القاعدة المقرَّرة من أن الكافر لا تناله شفاعة شافع، كما قال الله تعالى مخبرًا عنهم:{فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} .
وقوله في المدينة وهي وبيئة بالهمزة من الوباء، وهو هنا شدَّة المرض والحمَّى، وكانوا لَمَّا قدموا المدينة لم توافقهم في صحتهم، فأصابتهم أمراض عظيمة ولقوا من حُمَّاها شدَّة، حتى دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم وللمدينة فكشف الله ذلك ببركة دعائه، كما ذكر في هذا الحديث وفي غيره.
وقوله وحوَّل حُمَّاها إلى الجحفة، قد ذكرنا الجحفة في باب المواقيت، وإنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا رحمة لأهل المدينة ولأصحابه ونقمة من أهل الجحفة؛ فإنهم كانوا إذ ذاك كفارًا. قال الخطابي: كانوا يهودًا. وقيل: إنه لم يبق أحد من أهل الجحفة في ذلك الوقت إلا أخذته الحمَّى. وفيه الدعاء للمسلم وعلى الكافر، وهذا وما في معناه من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم التي تفوق الحصر حجَّة على بعض المعتزلة القائلين لا فائدة في الدَّعاء مع سابق القدر، وعلى غلاة الصوفية القائلين إن الدعاء قادح في التوكل، وهذه كلها جهالات لا ينتحلها إلا جاهل غبيٌّ لظهور فسادها وقُبح ما يلزم عليها، ولبسط هذا موضع آخر.
[1231]
وعَن يُحَنَّسَ مَولَى الزُّبَيرِ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِندَ عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ فِي الفِتنَةِ، فَأَتَتهُ مَولَاةٌ لَهُ تُسَلِّمُ عَلَيهِ، فَقَالَت: إِنِّي أَرَدتُ الخُرُوجَ يَا أَبَا عَبدِ الرَّحمَنِ! واشتَدَّ عَلَينَا الزَّمَانُ. فَقَالَ لَهَا عَبدُ اللَّهِ: اقعُدِي لَكَاعِ، فَإِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَصبِرُ عَلَى لَأوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إِلَّا كُنتُ لَهُ شَهِيدًا أَو شَفِيعًا يَومَ القِيَامَةِ.
رواه أحمد (2/ 113 و 119 و 133)، ومسلم (1377)(482)، والموطأ (2/ 885).
* * *
ــ
ويُحنِّسُ بضم الياء وكسر النون وتشديدها، رويناه، وهو المشهور. وقد ضبط عن أبي بحر يحنَّس بفتح النون.
وقول ابن عمر لمولاته اقعدي لكاع معناه لئيمة، من اللكع وهو اللآمة، وقيل: أخذ من الملاكيع، وهو الذي يخرج مع السَّلا من البطن، ولا يستعمل إلا في النداء، يقال للذكر: يا لكع. وللأنثى: يا لكاع. وقيل: يا لكعاء. وربما جاء في الشعر للضرورة في غير النداء، كما قال (1):
. . . . . . . . .
…
إلى بيت قَعِيدتُه لَكَاعِ (2)
وقد يقال للصغير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للحسن حين طلبه أثمَّ لكع (3)؛ أي الصغير، وهذا من ابن عمر تبسط مع مولاته وإنكار عليها إرادة الخروج من المدينة.
(1) القائل: هو أبو الغريب النصري.
(2)
صدر البيت: أطوِّفُ ما أطؤف ثم آوي.
(3)
رواه البخاري (2122)، ومسلم (2421).