الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ.
وَفِي أُخرَى: وَالمَوتُ قَبلَ لِقَاءِ اللهِ.
رواه أحمد (6/ 44 و 55)، والبخاري (6507)، ومسلم (2684)(15 و 16)، والترمذي (1067)، والنسائي (4/ 10)، وابن ماجه (4264).
* * *
ــ
في طريق آخر فقال: ولقاء الله بعد الموت.
وفي هذا الحديث ما يدلّ على أنه لا يخرج أحدٌ من هذه الدار حتى يعلم ما له عند الله تعالى من خير أو شر، وقد قيل ذلك في قوله تعالى:{لَهُمُ البُشرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا}
وهذه الكراهية للموت هي الكراهية الطبيعية التي هي راجعة إلى النفرة عن المكروه والضرر واستصعاب ذلك على النفوس، ولا شك في وجدانها لكلِّ أحد، غير أن مَن رزقه الله تعالى ذوقًا من محبته أو انكشف له شيء من جمال حضرته غلب عليه ما يجده من خالص محبته، فقال عند أزوف رحلته مخاطبًا للموت وسكرته كما قال معاذ رضي الله عنه: حبيبٌ جاء على فاقة، لا أفلح اليوم من ندم!
وكان يقول عند اشتداد السكرات: اخنُقنِي خنقَك، فوَحقِّكَ إن قلبي ليحبُّك!
* * *
(24) باب في التحصين بالقلع والخنادق عند الضعف عن مقاومة العدو وطرف من غزوة الأحزاب
[1304]
عن البَرَاءَ بن عازب قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَومَ الأَحزَابِ يَنقُلُ التُّرَابَ مَعَنَا، وَلَقَد وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطنِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
ــ
فإنه كان عشر سنين، واختلف فيها، فقال عروة بن الزبير: كانت أربع سنين. وقال ابن جريج: ثلاث سنين. والأول أشهر.
(24)
ومن باب: التحصين وحفر الخنادق
الأحزاب: جمع حزب، وهو الجماعة من الناس، والجملة من الشيء. وتحزب الناس: اجتمعوا. والحزب من القرآن: جملة مجتمعة منه.
ويوم الأحزاب: عبارة عن غزوة الأحزاب، وهي غزوة الخندق. وكانت في السنة الخامسة من الهجرة في شهر شوال، وكان سببها: أن نفرًا من رؤساء اليهود انطلقوا إلى مكة مؤلبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشجعين عليه، فجمعوا الجموع، وحزبوا الأحزاب، فاجتمعت قريش وقادتها، وغطفان وقادتها، وفزارة وقادتها، وغيرهم من أخلاط الناس. وخرجوا بحدهم وجدهم في عشرة آلاف حتى نزلوا المدينة، ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم شاور أصحابه، فأشار سلمان بالخندق، فحفروا الخندق، وتحصنوا به، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بمن معه من المسلمين في ثلاثة آلاف، فبرز، وأقام على الخندق، وجاءت الأحزاب، ونزلت من الجانب الآخر، ولم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل، غير أن فوارس من قريش اقتحموا الخندق، فخرج عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه في فرسان من المسلمين، فأخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها، فقتل عليٌّ عمرو بن ود مبارزةً، واقتحم الآخرون
وَاللَّهِ لَولَا الله مَا اهتَدَينَا
…
وَلَا تَصَدَّقنَا وَلَا صَلَّينَا
فَأَنزِلَن سَكِينَةً عَلَينَا
…
إِنَّ الأُلَى قَد بَغوا عَلَينَا
زَادَ فِي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار.
رواه البخاري (4104)، ومسلم (1803)، والرواية الثانية عند مسلم (1804) من حديث سهل بن سعد.
ــ
بخيلهم الخندق منهزمين إلى قومهم. ونقضت قريظة ما كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاونوا الأحزاب عليه، واشتد البلاء على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاء عدوهم من فوقهم، ومن أسفل منهم، فأقام المسلمون على تلك الحال قريبًا من شهر إلى أن خذل الله بين قريش وبين بني قريظة على يدي نعيم بن مسعود الأشجعي (1)، فاختلفوا، وأرسل الله عليهم ريحًا عاصفةً في ليال شديدة البرد، فجعلت تقلب آنيتهم، وتطفئ نيرانهم، وتكفأ قدورهم، حتى أشرفوا على الهلاك. فارتحلوا متفرقين في كل وجه، لا يلوي أحدٌ على أحدٍ. وكفى الله المؤمنين القتال. ثم إن رسول الله خرج إلى بني قريظة، فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، كما تقدم.
وقوله: (فأنزلن سكينة علينا)؛ السكينة: السكون، والثبات، والطمأنينة.
وقوله: (إن الأولى)؛ كذا صحَّت الرواية الأولى بالقصر، فيحتمل أن يريد به مؤنث الأول، ويكون معناه: إن الجماعة السابقة بالشر بغوا علينا. ويحتمل أن تكون (الألى) هي الموصولة بمعنى الذين، كما قال:
ويأشبني فيها الألى لا يلونها
…
ولو علموا لم يأشبوني بباطل
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
[1305]
وعَن أَنَسٍ: أَنَّ أَصحَابَ مُحَمَّدٍ كَانُوا يَقُولُونَ يَومَ الخَندَقِ:
نَحنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا
…
عَلَى الجهاد مَا بَقِينَا أَبَدًا
ــ
وقال ابن دريد:
إن الألى فارقت عن غير قلًى
…
ما زاغ قلبي عنهم ولا هفا
ويكون خبر (إن) محذوفًا، تقديره: إن الذين بغوا علينا ظالمون. وقيل: إن هذا تصحيف من بعض الرواة، وإن صوابه:(أولاء) ممدود، التي لإشارة الجماعة. وهذا صحيح من جهة المعنى والوزن. والله تعالى أعلم.
وغير خاف ما في هذا الحديث من الفقه؛ من جواز التحصن، والاحتراز من المكروهات، والأخذ بالحزم، والعمل في العادات بمقتضاها، وأن ذلك كله غير قادح في التوكل، ولا منقص منه (1)، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم على كمال المعرفة بالله تعالى، والتوكل عليه، والتسليم لأمره، ومع ذلك فلم يطرح الأسباب، ولا مقتضى العادات على ما يراه جُهّال المتزهدين أهل الدّعاوى الممخرقين.
وقد يستدل بإنشاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذه الأسجاع وأشباهها أهل المجون والبدع من المتصوّفة على إباحة ما أحدثوه من السَّماع المشتمل على مناكر لا يرضى بها أهل المروءات -فكيف بأهل الديانات؟ ! - كالطارات، والشبابات، واجتماع المغاني وأهل الفساد والشبَّان، والغناء بالألحان، والرقص بالأكمام، وضرب الأقدام، كما يفعله الفسقة المُجَّان. ومجموع ذلك يعلم فساده وكونه معصية من ضرورة الأديان، فلا يحتاج في إبطاله إلى إقامة دليل ولا برهان. وقد كتبنا في ذلك جزءًا حسنًا سميناه: كشف القناع عن حكم مسائل الوجد والسَّماع.
وقولهم: (نحن الذين بايعوا محمدًا
…
على الجهاد ما بقينا أبدًا)؛ تذكير منهم
(1) في (ج): له.
وَالنَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الخَيرَ خَيرَ الآخِرَه
…
فَاغفِر للأَنصَارَ وَالمُهَاجِرَة.
رواه البخاري (2834)، ومسلم (1805)(130)، والترمذي (3856).
[1306]
وَعَن إِبرَاهِيمَ التَّيمِيِّ، عَن أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِندَ حُذَيفَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَو أَدرَكتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاتَلتُ مَعَهُ فَأَبلَيتُ. فَقَالَ حُذَيفَةُ: أَنتَ كُنتَ تَفعَلُ ذَلِكَ؟ ! لَقَد رَأَيتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيلَةَ الأَحزَابِ وَأَخَذَتنَا رِيحٌ
ــ
لأنفسهم بعهد البيعة، وتجديد منهم لها، وإخبار منهم له بالوفاء بمقتضاها. ولما سمع منهم ذلك أجابهم ببشارة:(لا عيش إلا عيش الآخرة)، وبدعاء:(فاغفر للأنصار والمهاجرة). و (المهاجرة) أجراها صفة مؤنثة على موصوف محذوف فكأنه قال: للجماعة المهاجرة (1)، الرواية:(والمهاجرة) بألف بعد الواو وقبل اللام، وهو غير موزون؛ لأنه سجع، ولا يشترط فيه الوزن، ولو اشترط فإن الله تعالى قال:{وَمَا عَلَّمنَاهُ الشِّعرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} ولو قال: وللمهاجرة - بلامين- لاتَّزن، إذا نقل حركة (الأنصار) إلى الساكن.
وقول الرجل: (لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه فأبليت)؛ أي بالغت في ذلك، واجتهدت فيه حتى يظهر مني ما يبتلى؛ أي: ما يختبر. وقد تقدَّم: أن أصل هذا اللفظ: الاختبار. وأن فيه لغتين جمعهما زهير في قوله:
. . . . . . . . . .
…
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو (2)
وقد قيل: إن (بلا) في الخير، و (أبلى) في الشر. ولما قال هذا الرجل هذا الكلام ولم يستثن فيه، فهم منه حذيفة الجزم، والقطع بأنه كذلك كان يفعل، فأنكر
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
(2)
هذا عجز البيت، وصدره: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم.
شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم: أَلَا رَجُلٌ يَأتِينِي بِخَبَرِ القَومِ؟ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَومَ القِيَامَةِ! فَسَكَتنَا فَلَم يُجِبهُ مِنَّا أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا رَجُلٌ يَأتِينَا بِخَبَرِ القَومِ؟ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَومَ القِيَامَةِ. فَسَكَتنَا فَلَم يُجِبهُ مِنَّا أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا رَجُلٌ يَأتِينَي بِخَبَرِ القَومِ، جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَومَ القِيَامَةِ. فَسَكَتنَا فَلَم يُجِبهُ مِنَّا أَحَدٌ. فَقَالَ: قُم يَا حُذَيفَةُ، فَأتِنَا بِخَبَرِ القَومِ. فَلَم أَجِد بُدًّا إِذ دَعَانِي بِاسمِي أَن أَقُومَ، قَالَ: اذهَب فَأتِنِي بِخَبَرِ القَومِ، وَلَا تَذعَرهُم عَلَيَّ. فَلَمَّا وَلَّيتُ مِن عِندِهِ جَعَلتُ كَأَنَّمَا أَمشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيتُهُم، فَرَأَيتُ أَبَا سُفيَانَ يَصلِي ظَهرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعتُ سَهمًا فِي كَبِدِ القَوسِ، فَأَرَدتُ أَن أَرمِيَهُ، فَذَكَرتُ قَولَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم: لَا تَذعَرهُم عَلَيَّ. وَلَو رَمَيتُهُ لَأَصَبتُهُ، فَرَجَعتُ
ــ
ذلك عليه، وأخبره بما يفهم منه: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أقوى في دين الله، وأحرص على إظهاره، وأحب في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشجع منك، ومع ذلك فقد انتهت بهم الشدائد، والمشاق إلى أن حصل منهم ما ذكره، وإذا كان هذا فغيرهم بالضعف أولى. وحاصله: أن الإنسان ينبغي له ألَاّ يتمنى الشدائد والامتحان، فإنه لا يدري كيف يكون حاله فيها. فإن ابتلي صبر، وإن عوفي شكر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم؟ ) يتضمن إخباره صلى الله عليه وسلم بسلامة المار (1)، ورجوعه إليه.
وقوله: (جعله الله معي في الجنة)؛ أي: مصاحبًا لي، وملازمًا حضرتي. وكل واحد منهما على منزلته في الجنة، ومنزلة النبي صلى الله عليه وسلم لا يلحقه فيها أحد.
وقوله: (ولا تذعرهم علي)؛ الذعر: الفزع؛ أي: لا تفزعهم، فتهيجهم علي. و (يصلِي ظهره)؛ أي: يسخنه بالنار، ومصدره: الصلاء- مكسورًا، ممدودًا-. والصلى- مفتوحًا، مقصورا-.
(1) أي: الذاهب.