الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(14) باب في المن على الأسارى
[1281]
عن أبي هُرَيرَةَ قالُ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيلًا قِبَلَ نَجدٍ فَجَاءَت بِرَجُلٍ مِن بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالَ لَهُ: ثُمَامَةُ بنُ أُثَالٍ، سَيِّدُ أَهلِ اليَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِن سَوَارِي المَسجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَاذَا
ــ
الحديث: وهل أعمدُ من رجل قتله قومه؛ أي: أعظم سؤددًا. وعميد القوم: سيدهم؛ لأنهم يعتمدون عليه في أمورهم.
وهذا الحديث يدل على أن ابني عفراء قتلا أبا جهل؛ أي: أنفذا مقاتله، وأن عبد الله بن مسعود أجهز عليه. وفي كتاب أبي داود: أن ابن مسعود قتله، ونفله رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه؛ ويعني بذلك أنه أجهز عليه. وعلى هذا: يرتفع التناقض بين هذه الأحاديث. والله أعلم.
(14)
ومن باب: المن على الأسارى
(النَّج): المرتفع من الأرض، والغور: ما انخفض منها. و (أثال): أبو ثمامة - بضم الهمزة فيما أعلم -.
وقوله: (فربطوه بسارية من سواري المسجد)؛ بهذا تمسَّك الشافعي على جواز الكفار المساجد، واستثنى من ذلك مسجد مكة وحرمها. وخص أبو حنيفة هذا الحكم بأهل الكتاب لا غير. ومنع مالك رحمه الله دخول الكفار جميع المساجد والحرم. وهو قول عمر بن عبد العزيز، وقتادة، والمزني. ويستدل لهم بقوله تعالى:{إِنَّمَا المُشرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقرَبُوا المَسجِدَ الحَرَامَ} ووجه التمسّك بها: أنه نبَّه على أن منعهم دخول المسجد الحرام إنما كان
عِندَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ . فَقَالَ: عِندِي يَا مُحَمَّدُ خَيرٌ، إِن تَقتُل تَقتُل ذَا دَمٍ، وَإِن تُنعِم تُنعِم عَلَى شَاكِرٍ، وَإِن كُنتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَل تُعطَ مِنهُ مَا شِئتَ، فَتَرَكَهُ
ــ
لنجاستهم، وهذا يقتضي تنزيه المساجد عنهم، كما تنزه عن سائر الأنجاس.
والشافعي يحمل النجس هنا على عين المشرك. ومالك يحمله على أنه نجس بما يخالطه من النجاسة؛ إذ كان لا ينفك عنها، ولا يتحرز منها، وبقوله تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ} ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها، وبقوله صلى الله عليه وسلم:(إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول والقذر)(1).
والكافر لا يخلو عن ذلك. وبقوله صلى الله عليه وسلم: (لا أحل المسجد لحائض، ولا جنب)(2). والكافر جنب.
وإن كانت امرأة فعليها الغسل من الحيض، لا سيما إذا قلنا: إنهم مخاطبون بالفروع. وقد اعتذر أصحابنا عن حديث ثمامة بأوجه:
أحدها: أن ذلك كان متقدَّمًا على قوله تعالى: {إِنَّمَا المُشرِكُونَ نَجَسٌ} وهذا يحتاج إلى تحقيق نقل التواريخ.
وثانيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم بإسلامه. وهذا فيه بُعد؛ فإنه نص في الحديث على أنه إنما أسلم بعد أن منَّ عليه، وأطلقه، ثم إنه رجع فأسلم.
وثالثها: أن هذه قضية في عين، فلا ينبغي أن ترفع بها الأدلة التي ذكرناها آنفًا؛ لكونها مفيدة حكم القاعدة الكلية. ويمكن أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ربط ثمامة في المسجد لينظر حسن صلاة المسلمين، واجتماعهم عليها، وحسن آدابهم في جلوسهم في المسجد، فيأنسَّ بذلك ويسلم، وكذلك كان. ويمكن أن يقال: إنهم لم يكن لهم موضع يربطونه فيه إلا في المسجد. والله تعالى أعلم.
وقوله: (إن تقتل تقتل ذا دم)؛ هو بالدال المهملة؛ ويعني به: إنه ممن يشتفى
(1) رواه أحمد (3/ 91)، ومسلم (237).
(2)
رواه أبو داود (232)، وابن ماجه (645).
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ الغَدِ ثم قَالَ له: مَا عِندَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ . قَالَ: مَا قُلتُ لَكَ: إِن تُنعِم تُنعِم عَلَى شَاكِرٍ، وَإِن تَقتُل تَقتُل ذَا دَمٍ، وَإِن كُنتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَل تُعطَ مِنهُ مَا شِئتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ بعد الغَدِ فَقَالَ: مَا عِندَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ . فَقَالَ: ما قُلتُ لَكَ: إِن تُنعِم تُنعِم عَلَى شَاكِرٍ، وَإِن تَقتُل تَقتُل ذَا دَمٍ، وَإِن كُنتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَل تُعطَ مِنهُ مَا شِئتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم: أَطلِقُوا ثُمَامَةَ. فَانطَلَقَ إِلَى نَخلٍ قَرِيبٍ مِن المَسجِدِ فَاغتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ المَسجِدَ فَقَالَ: أَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
ــ
بدمه؛ لأنه كبير في قومه، وقد سمعت من بعض النقلة أنه يقوله بالذال المعجمة، وفسَّره بالعيب، وليس بشيء في المعنى، ولا صحيح في الرواية، وهو تصحيف. ولو أراد به العيب لقال: ذامٍ، بألف، كما في المثل: لا تعدم الحسناء ذامًا؛ أي: عيبًا.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أطلقوا ثمامة)؛ دليل على جواز المنّ على الأسارى، كما قدّمناه.
وقوله: (فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد)؛ هذا يدل: على أن غسل الكافر كان عندهم مشروعًا، معمولًا به، معروفًا. ألا ترى أنه لم يحتج في ذلك إلى من يأمره بالغسل، ولا لمن ينبهه عليه؟ !
وقد ورد الأمر به من النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر: أن قيس بن عاصم أسلم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل (1). وبه تمسك من قال: بوجوب الغسل على الكافر إذا أسلم. وهو قول أحمد، وأبي ثور. وأما مالك فقال في المشهور عنه: إنه إنما يغتسل لكونه جنبًا. ومن أصحابه من قال: يغتسل للنظافة. وقال بسقوط الوجوب الشافعي. وقال: أحبّ إلي أن يغتسل. ونحوه لابن القاسم. ولمالك أيضًا قول: إنه لا يعرف
(1) رواه أبو داود (355)، والترمذي (605)، والنسائي (1/ 109).
عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرضِ وَجهٌ أَبغَضَ إِلَيَّ مِن وَجهِكَ، فَقَد أَصبَحَ وَجهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِن دِينٍ أَبغَضَ إِلَيَّ مِن دِينِكَ، فَأَصبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِن بَلَدٍ أَبغَضَ إِلَيَّ مِن بَلَدِكَ، فَأَصبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ البِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيلَكَ أَخَذَتنِي وَأَنَا أُرِيدُ العُمرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَهُ أَن يَعتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَصَبَوتَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَسلَمتُ مَعَ
ــ
الغسل. رواه عنه ابن وهب، وابن أبي أويس. والرواية الصحيحة في البخاري ومسلم: نخل - بالخاء المعجمة -، وقال بعضهم: صوابه: بالجيم، وهو الماء المنثعب (1)، وقيل: الجاري. وقال ابن دريد: النجل: هو أول ما ينبعث من البئر إذا جرت. واستنجل الوادي؛ إذا ظهر ماؤه.
وقوله: (إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فبشره، وأمره أن يعتمر)؛ لا يفهم منه: أنه لما أراد أن يعتمر وهو في الجاهلية أن ذلك لزمه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإتمامه؛ لأنه لم يصر أحدٌ من المسلمين إلى أن إرادة فعل القربة يلزمها من غير التزام بالنذر، ولا شروع في العمل، بل ولو التزم، وشرع لم يلزمه ذلك في حالة كفره؛ لأنا وإن قلنا: إنه مخاطب بالفروع، فلا يتأتى منه قصد الالتزام، ولا يصح منه الشروع! إذ لم يفعل ذلك على وجه شرعي، بل هو فاسد لعدم شروطه، لا سيما إذا كان ممن يحتاج إلى نية القربة، وإنما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينشئ عمرة مبتدأة، ليحرز فيها له الأجر، وليغيظ بإسلامه كفار قريش، فإن الرجل كان عظيمًا في قومه وغيرهم، ولذلك لما قدم مكة أظهر إسلامه، ولم يبال بهم، بل أخبرهم بما ناقضهم به، وأغاظهم؛ وهو قوله: (والله! لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى
(1) ثعبَ الماءَ والدمَ: فجَّره فسال. وفي (م) و (هـ): المنسعب، وفي القاموس: انسعب الماء: سال.