الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(17) باب نسخ الفدية، ومتى يقضى رمضان
[1011]
عَن سَلَمَةَ بنِ الأَكوَعِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَت هَذِهِ الآيَةُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِديَةٌ طَعَامُ مِسكِينٍ} كَانَ مَن أَرَادَ أَن يُفطِرَ وَيَفتَدِيَ حَتَّى نَزَلَت الآيَةُ الَّتِي بَعدَهَا فَنَسَخَتهَا.
ــ
(17)
ومن باب: نسخ الفدية
قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِديَةٌ طَعَامُ مِسكِينٍ} اختلف في قراءتها، وفي معناها، فأما قراءتها: فالجمهور على: (يُطِيقُونَهُ) بكسر الطاء وسكون الياء، وأصله: يطوقونه (1)، وكذلك قراءة حميد.
ومشهور قراءة ابن عباس: يُطوقُونه. وقد روي عنه: يطيقُونه. وقرأت عائشة وطاوس وعمرو بن دينار: يطوقُونه.
فأما قراءة الجمهور فمعناها: يقدرون عليه. وعلى هذا تكون الآية منسوخة كما قال سلمة بن الأكوع، وابن عمر، ومعاذ بن جبل، وعلقمة، والنخعي، والحسن، والشعبي، وابن شهاب.
وقال السُّدي: هم الذين كانوا يطيقونه وهم بحال الشباب ثم استحالوا بالشيخ فلا يستطيعون الصوم. وهي عنده محكمة، وتلزم الشيوخ عنده الفدية. ونحوه عن ابن عباس، وزاد: المريض الذي لا يقدر على الصوم، وعضد هذا بقراءته المذكورة قبل.
قال القاضي أبو محمد (2) بن عطية: الآية عند مالك؛ إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من رمضان المتقدم، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم، فترك، فعليه الفدية.
وحكى الطبري عن عكرمة: أنه كان يقرؤها: وعلى الذين يطيقونه فأفطروا.
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
(2)
في الأصول (أبو بكر) والمثبت من (ع)، وانظره في السير (19/ 587).
وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَى أُنزِلَت هَذِهِ الآية: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَصُمهُ} [البقرة: 185].
رواه البخاري (4506)، ومسلم (1145)(149 و 150)، وأبو داود (2315)، والترمذي (798)، والنسائي (4/ 190).
ــ
وأما قراءة: يُطوقُونه؛ فمعناه: يكلفونه مع المشقة اللاحقة لهم كالمريض والحامل؛ فإنهما يقدران عليه؛ لكن بمشقة تلحق رضيعها، فذهب بعض الناس: إلى أنها محكمة لهؤلاء، فإن صاموا أجزأهم، وإن افتدوا فلهم ذلك، وقاله ابن عباس فيما حكاه عنه البخاري، وأبو داود، ورأيا: أنها ليست بمنسوخة؛ لكنها مثبتة للشيخ والمرأة الكبيرة اللذين لا يستطيعان أن يصوما، وللحامل والمرضع.
و{يُطِيقُونَهُ} بالياء مكان الواو مشددة، مبنيًّا للمفعول، مثل:(يَطَوَّقُونه) بالمعنى. فأما قراءة عائشة: فأصلها: (يَتَطَوَّقُونه) فأُدغمت التاء في الطاء، ومعناها: يتكلفون ذلك بأنفسهم مع المشقة، ويرجع ذلك لما تقدَّم في المريض ومن ذكر معه.
فأما قوله تعالى: {فِديَةٌ طَعَامُ مِسكِينٍ} ففدية: مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف؛ أي: فعليهم فدية، أو خبر مبتدأ؛ أي: فحكمهم فدية. وقراءة نافع وابن عامر: ففديةُ طعامِ بإضافة فِديَةٌ إلى طَعَامٍ وجمع مَسَاكِينِ. وقرأ هشام: فِديَةٌ طَعَامُ (1)، بتنوين فِديَةٌ ورفع طَعَامُ على أن الطعام بدل منها. وقرأ بقية السبعة كذلك، إلا أنهم وحدوا مَسَاكِينِ وهي قراءة: حسنة؛ لأنها بيَّنت: أن الواجب في فطر يوم إطعام مسكين واحد، فأما الجمع فلا يعرف من مساق الآية هل هم أعني: المساكين - بإزاء يوم واحد، أو بإزاء أيام؟ وإنما يعلم ذلك من دليل آخر.
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ثم اختلفوا في مقدار هذا الطعام حيث يجب: فذهب مالك وجماعة من العلماء: إلى أنه مُدٌّ لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدَّم في الزكاة.
وقال أشهب: مُدّ وثلث بمد أهل المدينة. وقال قوم: قوت يوم عشاء وسحور. وقال سفيان الثوري، وأبو حنيفة: نصف صاع من قمح، وصاع من تمر أو زبيب.
وقوله: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيرًا فَهُوَ خَيرٌ لَهُ} ؛ أي: من تطوع بزيادة على إطعام مسكين، قاله ابن عباس وجماعة. وقال ابن شهاب: من أراد الإطعام مع الصوم. وقال مجاهد: من زاد في الإطعام على المد.
وخَيرٌ الأول والثاني بمعنى: أَخيَر، وأفضل، معناه: من تطوَّع بأكثر من ذلك فهو أفضل عند الله.
وقوله: {وَأَن تَصُومُوا خَيرٌ لَكُم} ؛ أي: الصوم خير. وكذلك قرأها أُبَيّ. ومعناه: أن الصوم أفضل وأولى من الفدية.
وقول سلمة بن الأكوع: إن ذلك نسخ بقوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَصُمهُ} هذا مقبول من قول الصحابي؛ لأنه أعلم بالمقال، وأقعد بالحال، كما إذا قال: أمر ونهى. ووجه النسخ في هذا واضح؛ وهو: أن آية الفدية تقتضي التخيير بين الفدية والصوم مطلقًا، كما قال سلمة. وهذه الآية الأخرى جاءت جازمة بالصوم لمن شهد الشهر، رافعة لذلك التخيير.
ومعنى: شهد الشهر؛ أي: حضر فيه مقيمًا في المصر. هذا قول جمهور العلماء، وعلى هذا يكون الشَّهرَ منصوبًا على الظرف، ويكون معناه عندهم: أن من دخل عليه الشهر وهو مسافر، أو طرأ عليه فيه سفر؛ لم يجب عليه صومه.
وروي عن عليّ، وابن عباس، وعبيدة السلماني: أن معنى مَن شَهِدَ: من حضر دخول الشهر، وكان مقيمًا في أوله فليكمل صيامه، سافر بعد ذلك أو أقام؛ وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في السفر.
قلت: وهذا القول يردّه فطر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في السَّفر الطارئ عليهم بفتح مكة، على ما تقدَّم. وقد كانوا ابتدؤوا الصوم في الحضر. وقال أبو حنيفة: من
[1012]
وعن عَائِشَةَ قالت: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّومُ مِن رَمَضَانَ فَمَا أَستَطِيعُ أَن أَقضِيَهُ إِلَّا فِي شَعبَانَ
ــ
شهد الشهر بشروط التكليف فليصمه، ومن دخل عليه وهو مجنون، وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه؛ لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام. ومن جُنَّ أول الشهر، أو آخره؛ فإنه يقضي أيام جنونه.
قال القاضي أبو محمد بن عطية: ونصب الشهر على هذا التأويل على المفعول الصريح: بـ (شَهِدَ).
قلت: وتكميله أن يكون شُهَدَ بمعنى: شاهد.
وقول عائشة رضي الله عنها: (أنها يكون عليها الصوم فما تستطيع أن تقضيه حتى يأتي شعبان)؛ فيه حجة على أن قضاء رمضان ليس على الفور؛ خلافًا لداود في إيجابه إياه ثاني شوال، ومن لم يصمه كذلك فهو آثم عنده. وهذا الذي صار إليه داود خلافًا لما يفهم من هذا الحديث ومن قوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِن أَيَّامٍ أُخَرَ} ؛ فإنه لم يعينها، ولا قيدها بقيدٍ، فتعيينها تحكم بغير دليل.
وحديث عائشة هذا وإن لم تصرح فيه برفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يعلم: أنه لا يخفى مثله عنه، ولا أن أزواجه ينفردن بآرائهن في مثل هذا الأمر المهم الضروري، فالظاهر: أن ذلك عن إذن النبي صلى الله عليه وسلم وتسويفه لهن ذلك. فوقت قضائه على هذا: من شوال إلى شعبان. وهو قول مالك، والشافعي. فله أن يوقعه في أي وقت من أوقات المدة المذكورة شاء. وحينئذ يأثم مؤخره عن شعبان لتفريطه.
ثم هل تلزمه كفارة لذلك، أم لا تلزمه؟ فالأول قول مالك، والشافعي، ومعظمهم. وقال به ابن عباس، وعائشة. وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، وداود: إلى أنه لا كفارة عليه.
ثم اختلف أصحابنا فيما به يكون مفرطًا: فمعظم الشيوخ: على أنه لا يكون مفرطًا إلا بترك القضاء عند خروج مقدار ما عليه من أيام الصوم من شعبان. ولو صح من سنته، ثم جاءه ما منعه حتى دخل عليه رمضان؛ لم تلزمه الكفارة.
وقال بعضهم: إنه تراعى صحته، وإقامته من أول عامه، فمن صح من
الشُّغلُ مِن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَو بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَفِي رِوَايَةٍ: وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه البخاري (1950)، ومسلم (1146)(151)، وأبو داود (2399)، والترمذي (783)، والنسائي (4/ 191).
ــ
شوال فما بعده مدة يمكنه فيه قضاء ما عليه فلم يفعل حتى جاءه ما منعه حتى دخل عليه رمضان؛ فقد لزمته الكفارة. ونحوه في المدونة.
قلت: والقول الأول جار على القياس في التوسيع لوقت الصلاة؛ فإنه لو صح في أول وقت الصلاة، ثم أغمي عليه مثلاً؛ حتى خرج الوقت؛ أعني: وقت الضرورة عند أصحابنا لم يلزمه قضاء، وعلى ذلك القياس: لو مات في أثناء السنة لم يقضِ. وقد حكى أبو حامد: إجماع السَّلف على ذلك القياس في الصلاة، اللهم إلا أن يخاف الفوت لحضور سببه؛ فيتعين الفعل إذ ذاك، فإن أخره أثم.
وأما القول الثاني: فإنما يتمشى على مذهب من يقول: إنه مُوسَّعٌ بشرط سلامة العاقبة، كما يقوله الكرخي. ولا نعلم أحدًا من أصحابنا قال به، غير أن هذا الفرع يقتضي مراعاة ذلك الأصل، والله تعالى أعلم.
ثم اختُلف في قضاء رمضان: هل من شرطه التتابع؟ وبه قال جماعة من الصحابة، والتابعين، وأهل الظاهر. أو ليس من شرطه ذلك. وهو مروي أيضًا عن جماعة من الصحابة، والتابعين، وكافة علماء الأمصار متمسكين بإطلاق قوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِن أَيَّامٍ أُخَرَ} والتقييد لا بُدَّ فيه من دليل، ولا حجة في قراءة عبد الله متتابعات؛ إذ ليست تلك الزيادة بقرآن متواتر، ولا مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يعمل بها، وهي محمولة على أنها من تفسير ابن مسعود لرأي رآه. والله تعالى أعلم.
وقولها: (الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي الرواية
[1013]
وعَنهَا قَالَت: إِن كَانَت إِحدَانَا لَتُفطِرُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا تَقدِرُ عَلَى أَن تَقضِيَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَأتِيَ شَعبَانُ.
رواه مسلم (1146)(152).
* * *
ــ
الثالثة: (فما نقدر أن نقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كل هذه الألفاظ محوِّمَةٌ على أن مراعاة حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أزواجه كانت الموجبة لتأخير قضاء رمضان إلى شعبان.
وتفيد أن تأخير القضاء إلى شعبان مسوغ، وأن المبادرة به أولى، وأن ذلك التأخير كان عن إذنه صلى الله عليه وسلم. وارتفع (الشغل) في الرواية الأولى على أنه فاعل بفعل مضمر، دلَّ عليه المساق؛ كأنها قالت: منعني الشغل.
وظاهر مساق الألفاظ: أنها من قول عائشة، وخصوصًا: في الرواية الثالثة، فإن ذلك نصٌّ؛ غير أن البخاري ذكر الرواية الأولى، ثم قال:(قال يحيى: الشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم). فقال لذلك بعض علمائنا: إن ذلك القول في الرواية الأولى ليس من قول عائشة، وإنما هو من قول غيرها، وسكت عنه.
قلت: وَهَبكَ أن الرواية الأولى قابلة للاحتمال، لكن الثالثة لا تقبل شيئًا من ذلك، فتأملها.
وقولها: (إن كانت إحدانا لتفطر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ يفيد هذا اللفظ: أن التأخير لأجل الشغل لم يكن لها وحدها، بل لها ولغيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
وقولها: (فما نقدر على أن نقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعني: أنها كانت تتوقع حاجته إليها على الدوام. فإن قيل: وكيف لا تقدر على الصوم لحقه فيها وقد كان له تسع نسوة، وكان يقسم بينهن، فلا تصل النوبة لإحداهن إلا بعد ثمان، فكان يمكنها أن تصوم في هذه الأيام التي يكون فيها عند غيرها؟ ! فالجواب: أن القسم لم يكن عليه واجبًا لهن، وإنما كان يفعله بحكم تطييب قلوبهن، ودفعًا لما