الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4) باب بيان المحل الذي أهل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم
-
[1056]
عن ابنُ عُمَرَ قَالَ: بيداؤكم هذه الَّتِي تَكذِبُونَ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِن عِندِ المسجد يعني ذا الحليفة، وَفِي رِوَايَةٍ: مَا أَهَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِن عِندِ الشَّجَرَةِ حِينَ قَامَ بِهِ بَعِيرُهُ.
رواه أحمد (2/ 10)، والبخاري (1541)، ومسلم (1186)(23 و 24)، وأبو داود (1771)، والنسائي (5/ 162 - 163).
ــ
(4)
ومن باب: بيان المحل الذي أهل منه النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: (بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ البيداء: القفر الخالي عن العامر، ويسُمى: مفازة، على جهة التفاؤل، وهي مهلكة. وكل مفازة بيداء، والجمع: بيد، وهي هنا: عبارة عن المفازة التي بين مكة والمدينة. أولها شرف مرتفع قريب من مسجد ذي الحليفة، والشجرة هناك، وهذه المواضع كلها متقاربة.
و(تكذبون) هنا: تخطئون. والكذب: الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، فإن كان مع العمد فهو الكذب المذموم، وإن كان مع السهو والغلط فهو الخطأ. وقصد ابن عمر بإطلاق الكذب على هذا ليتثبت الناقل أو المفتي، حتى لا يقول أحد إلا ما يتحقق صحته، ووجهه.
وقد اختلف النقلة في مَهِل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قائل: إنه أهل من المسجد بعد أن صلَّى ركعتين، وابن عمر يقول: من الشجرة، وغيره يقول: من البيداء. وقد صار الناس في الأخذ بهذه الأحاديث على طريقتين (1)؛ فمنهم من رجَّح بعض هذه الروايات. ومنهم من جمع؛ بأن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أهل في هذه المواضع كلها،
(1) في (ظ): طريقين.
[1057]
وَعَن عُبَيدِ بنِ جُرَيجٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ يَا أَبَا عَبدِ الرَّحمَنِ! رَأَيتُكَ تَصنَعُ أَربَعًا لَم أَرَ أَحَدًا مِن أَصحَابِكَ يَصنَعُهَا، قَالَ: مَا هُنَّ يَا بنَ جُرَيجٍ؟ قَالَ: رَأَيتُكَ لَا تَمَسُّ مِن الأَركَانِ إِلَّا اليَمَانِيَينِ، وَرَأَيتُكَ تَلبَسُ النِّعَالَ السِّبتِيَّةَ، وَرَأَيتُكَ تَصبُغُ بِالصُّفرَةِ، وَرَأَيتُكَ إِذَا كُنتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوا الهِلَالَ، وَلَم تُهل أَنتَ حَتَّى يَكُونَ يَومُ التَّروِيَةِ.
ــ
فأخبر كل منهم بما سمعه، على ما يأتي من حديث ابن عباس.
وقول ابن جريج لابن عمر: (رأيتك تصنع أربعًا، لم أر أحدًا من أصحابك يصنعها)؛ أي: يجمعها في فعله كما كان يجمعها ابن عمر، وإن كان يصنع بعضهم بعضها. واقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على استلام الركنين اليمانيين؛ لأن الركنين الآخرين، وهما اللذان يليان الحجر ليسا على تأسيس إبراهيم عليه السلام، ولما ردها ابن الزبير على قواعد إبراهيم استلم الأركان كلها. قاله القابسي.
قال القاضي عياض: ولو بني الآن على ما بناه ابن الزبير لاستلمت كلها، كما فعل ابن الزبير. والجمهور على مس الركنين اليمانيين، وإن ذلك ليس بركن.
والنعال السِّبتية بكسر السين: منسوبة إلى السبت - بالكسر -، هي التي أزال الدِّباغ شعرها. قال الشيباني: السِّبت: كل جلد مدبوغ. وقيل: السِّبت: دباغ يقلع الشعر، وهذا القول أحسن مِن قول مَن قال: إنها منسوبة إلى السبت - بفتح السين - وهو: الحلق؛ لأنه يلزم على القياس أن يقال: السَّبتية - بالفتح - ولم يسمع من يقوله هنا، ولا من يرويه. وكانت عادة العرب لباس النعال بشعرها، غير مدبوغة، وإنما كان يلبس المدبوغة مما كانت تصنع بالطائف وغيره أهل الرفاهية والسَّعة، كما قال شاعرهم (1):
. . . . . . . . . . . . . . . . .
…
يُحذَى نعَالَ السِّبتِ ليس بِتَوأَمِ (2)
(1) هو عنترة.
(2)
هذا عجز بيت، وصدره: بَطَلٌ كأنَّ ثِيابَه في سَرحَةٍ. انظر: ديوان عنترة ص (22).
فَقَالَ عَبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ: أَمَّا الأَركَانُ فَإِنِّي لَم أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمَسُّ إِلَّا اليَمَانِيَينِ وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيسَ فِيهَا شَعَرٌ، وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَن أَلبَسَهَا، وَأَمَّا الصُّفرَةُ فَإِنِّي رَأَيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصبُغُ بِهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَن أَصبُغَ بِهَا، وَأَمَّا الإِهلَالُ فَإِنِّي لَم أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ.
رواه أحمد (2/ 17 - 18)، والبخاري (166)، ومسلم (1187)(25)، وأبو داود (1772)، والترمذي في الشمائل (74)، والنسائي (1/ 80 - 81).
ــ
وأما صباغه بالصفرة، فقيل: المراد به: صباغ الشعر. وقيل: صباغ الثياب.
قلت: وقد روى أبو داود من طرق صحاح ما يدل: على أن ابن عمر كان يصبغ لحيته وثيابه بالصفرة، وذلك أنه روي عن زيد بن أسلم: أن ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى يملأ ثيابه، فقيل له: لم تصبغ بها؟ فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها، ولم يكن شيء أحبَّ إليه منها، كان يصبغ ثيابه كلها، حتى عمامته (1). قال أبو عمر بن عبد البر: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة إلا ثيابه.
وأما الخضاب: فلم يكن صلى الله عليه وسلم يخضب.
قلت: وقد روى أبو داود عن أبي رِمثة ما يدل على خلاف ما قال أبو عمر. قال أبو رمثة: انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ذو وفرة بها ردع من حِنَّاء، وعليه بُردان أخضران (2).
وأما اعتذار ابن عمر عن تأخيره الإهلال إلى يوم التروية فإنه لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته. فوجهه: أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم إلا إذا أخذ في أول عمل الحج، وهو المشي إليه إذا انبعثت به الراحلة؛ أخر
(1) رواه أبو داود (4064).
(2)
رواه أبو داود (4065).
[1058]
وعَن ابنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَضَعَ رِجلَهُ فِي الغَرزِ، وَانبَعَثَت بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَهَلَّ مِن ذِي الحُلَيفَةِ.
رواه أحمد (2/ 18 و 39)، والبخاري (2865)، ومسلم (1187)(27)، وابن ماجه (2916).
[1059]
وعنه قَالَ: بَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي الحُلَيفَةِ مَبدَأَهُ وَصَلَّى فِي مَسجِدِهَا.
رواه مسلم (1188)، والنسائي (5/ 126).
* * *
ــ
هو الإحرام إلى يوم التروية، حتى يكون مشيه في عمل الحج عقب إحرامه. وقد أبعد من قال: إن هذا من باب القياس. بل هو تمسُّك بنوع الفعل الذي رآه يفعله على ما قررناه.
وقد اختلف اختيار العلماء والسلف في ذلك على قولين: وهما عند مالك. واستحب بعض شيوخنا: أن يهل يوم التروية من كان خارجًا عن مكة، ولمن كان داخل مكة أن يهل من أول الشهر، وهو قول كثير من الصحابة والعلماء. وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قاله عياض.
ويوم التروية: هو اليوم الثامن، وسُمي بذلك لأن الناس يتروون فيه للخروج إلى منى. وقيل: لأنهم كانوا يحملون معهم الروايا بالماء ليلة منى، فيروون من فيها.
والغرز للناقة كالركاب للفرس. وهو ما توضع فيه الرِّجل للركوب.
وقوله: (بات رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة مبدأه، وصلَّى في مسجدها)؛ من فعل هذا فقد أحسن، وإن لم يكن عندهم من السنن.
و(مبدأه) بضم الميم وفتحها؛ أي: ابتداء حجه.