الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(49) باب الحج عن المعضوب والصبي
[1193]
عَن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الفَضلُ بنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَتهُ امرَأَةٌ مِن خَثعَمَ تَستَفتِيهِ، فَجَعَلَ الفَضلُ يَنظُرُ إِلَيهَا، وَتَنظُرُ إِلَيهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصرِفُ وَجهَ الفَضلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ قَالَت: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الحَجِّ أَدرَكَت أَبِي شَيخًا كَبِيرًا لَا يَستَطِيعُ أَن يَثبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنهُ؟ قَالَ: نَعَم وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ.
ــ
(49)
ومن باب: الحج عن المعضوب
قوله: (فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه)؛ هذا النظر منهما بمقتضى الطباع؛ فإنها مجبولةٌ على الميل إلى الصور الحسنة. ولذلك قال في رواية: (وكان الفضل أبيض وسيمًا)؛ أي: جميلًا. و (صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل إلى الشق الآخر)؛ منع له من مقتضى الطبع، وردٌّ له (1) إلى مقتضى الشرع.
وفيه دليل: على أن المرأة تكشف وجهها في الإحرام، وأنها لا يجب عليها ستره وإن خيف منها (2) الفتنة، لكنها تندب إلى ذلك، بخلاف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الحجاب عليهن كان فريضة.
وقولها: (إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة)؛ هذا هو المسمَّى بالمعضوب. والعضب: القطع. وبه سُمِّي السيف: عضبًا، وكأن من انتهى إلى هذه الحالة قطعت أعضاؤه؛ إذ لا يقدر على شيء. وقد
(1) ساقط من (ج).
(2)
في (ع): منه.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَت: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبِي شَيخٌ كَبِيرٌ عَلَيهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ
ــ
بيَّنَتُه في الرواية الأخرى بقولها: (لا يستطيع أن يستويَ على ظهر بعيره. فبمجموع الروايتين يحصل: أنه لا يقدر على الاستواء على الراحلة، ولو استوى لم يثبت عليها.
وقولها: (أدركت أبي)، وفي الرواية الأخرى:(عليه فريضة الله في الحج)؛ ظاهرٌ في أن من لم يستطع الحج بنفسه أنه يخاطب به. وبهذا الظاهر أخذ الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة، والجمهور على تفصيل لهم يأتي إن شاء الله تعالى. وخالفهم في ذلك مالك وأصحابه، ورأوا: أن هذا الظاهر مخالف لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلا} فإن الأصل في الاستطاعة إنما هي القوة بالبدن. ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسطَاعُوا أَن يَظهَرُوهُ وَمَا استَطَاعُوا لَهُ نَقبًا} ؛ أي: ما قدروا، ولا قووا. وبالجملة: فإذا قال القائل: فلان مستطيع، أو غير مستطيع. فالظاهر منه السابق إلى الفهم: نفي القدرة أو إثباتها، فلما عارض ظاهر الحديث ظاهر القرآن رجح مالك رحمه الله ظاهر القرآن. وهو مرجح بلا شك من أوجه: منها: أنه مقطوع بتواتره. ومنها: أن هذا القول إنما هو قول المرأة على ما ظنت. ثم إنه يحتمل أن يكون معنى: (أدركت أبي): أن الحج فرض وأبوها حي على تلك الحالة الموصوفة.
قلت: وهذا التأويل، وإن قبله قولها:(أدركت). فلا يقبله قولها في الرواية الأخرى: (عليه فريضة الحج). لكن هذا كله منها ظن وحسبان، ولا حجة في شيء من ذلك، فإنها ظنت الأمر على خلاف ما هو عليه. ولا يقال: فقد أجابها رسول الله صلى الله عليه وسلم على سؤالها، ولو كان سؤالها غلطًا لما أجابها عليه، ولبينه لها، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، لأنا نقول: إنه لم يُجبها على هذا القول، بل على قولها:(أفأحج عنه؟ ) فقال لها: (نعم). أو: (فحجي عنه) على اختلاف
فِي الحَجِّ، وَهُوَ لَا يَستَطِيعُ أَن يَستَوِيَ عَلَى ظَهرِ بَعِيرِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَحُجِّي عَنهُ.
ــ
الرواية، وإنما قال لها ذلك لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها، فأجابها إلى ذلك. كما قال للأخرى التي قالت: إن أمي نذرت أن تحجَّ، فلم تحجَّ حتى ماتت، أفأحجَّ عنها؟ فقال:(حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته عنها؟ ) قالت: نعم (1)؛ ففي هذا ما يدل على أنه من باب التطوُّعات، وإيصال الخير والبرِّ للأموات. ألا ترى أنه قد شبَّه فعل الحج بالدَّين؟ ! وبالإجماع: لو مات ميت (2) وعليه دين لم يجب على وليه قضاؤه من ماله، فإن تطوع بذلك تأدَّى الدين عنه. ولا يبعد في كرم الله وفضله إذا حجَّ الولي عن الميت الصَّرورة (3) أن يعفو الله عن الميت بذلك، ويثيبه عليه، أو لا يطالبه بتفريطه. وقد تقدَّم الكلام على هذا المعنى في الصوم. ولم يتعرض النبي صلى الله عليه وسلم لقولها؛ لأنه فهم أن مرادها الاحتمال الذي قدمناه. والله تعالى أعلم.
قلت: وقد قال بعض أصحابنا - وهو أبو عمر بن عبد البر -: حديث الخثعمية عند مالك وأصحابه مخصوص بها. وقال آخرون: فيه اضطراب. قلت: وفي هذين القولين بُعد. والصحيح ما قدَّمته. والله أعلم.
وقد قال بعض أصحابنا بموجب حديث الخثعمية فقال: لا تجوز النيابة في الحج إلا للابن عن أبيه خاصة. وفي هذا الحديث ردٌّ على الحسن بن حييِّ حيث قال: لا يجوز حج المرأة عن الرجل.
وقد اختلف العلماء في النيابة في الحج قديمًا وحديثًا. فحكي عن النخعي
(1) رواه مسلم (1148)، وأبو داود (3307)، والترمذي (716).
(2)
من (هـ) و (ج).
(3)
"الصرورة": الذي لم يحجَّ قطُّ.
رواه أحمد (1/ 346)، والبخاري (1513)، ومسلم (1334) و (1335) وأبو داود (1809)، والئسائي (5/ 118)، وابن ماجه (2909).
ــ
وبعض السَّلف: لا يحج أحدٌ عن أحد جملة من غير تفصيل. وحكي مثله عن مالك. وقال جمهور الفقهاء: يجوز أن يحج عن الميت، عن فرضه، ونذره، وإن لم يوص به (1)، ويجزئ عنه. واختلف قول الشافعي رحمه الله في الإجزاء عن الفرض. ومذهب مالك، والليث، والحسن بن حيي: أنه لا يحج أحدٌ عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام، ولا ينوب عن فرضه. قال مالك: إذا أوصى به. وكذلك عنده يتطوع بالحج عن الميت إذا أوصى به. وأجاز أبو حنيفة، والثوري وصية الصحيح بالحج عنه تطوُّعًا. وروي مثله عن مالك.
وسبب الخلاف في هذه المسألة: ما قد أشرنا إليه من معارضة الظواهر بعضها بعضًا، ومعارضة القياس لتلك الظواهر، واختلافهم في تصحيح حديثي جابر وابن عباس. فأما حديث جابر: فخرَّجه عبد الرزاق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدخل بالحجة الواحدة ثلاثة الجنة: الميت، والحاج، والمنفِّذ لذلك)(2). في إسناده أبو معشر؛ نجيح، وأكثر الناس يضعفه، ومع ضعفه يكتب حديثه.
وأما حديث ابن عباس: فخرَّجه أبو داود. قال فيه: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة. فقال: (من شبرمة؟ ) قال: أخ لي، أو قريب لي. فقال:(حججت عن نفسك؟ ) قال: لا. قال: (حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة)(3). علله بعضهم: بأنه قد روي موقوفًا، والذي أسنده ثقة. وقد قال سفيان، والحسن بن علي: لا يحج في الوصية بالحج من لم يحجَّ عن نفسه، أخذًا بحديث
(1) في (ع) و (ج): يفرض له.
(2)
رواه البيهقي (5/ 180 و 356).
(3)
رواه أبو داود (1811)، وابن ماجه (2903).
[1194]
وعَن ابنِ عَبَّاسٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ رَكبًا بِالرَّوحَاءِ فَقَالَ: مَن القَومُ؟ قَالُوا: المُسلِمُونَ فَقَالُوا: مَن أَنتَ؟ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ. فَرَفَعَت إِلَيهِ امرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَت: أَلِهَذَا حَجٌّ
ــ
شبرمة هذا. وقاله الشافعي فيمن حج عن ميِّت. وقال غيرُ مَن ذكر: بجواز ذلك، وإن كان الأولى هو الأول.
والجمهور على كراهية الإجارة في الحج. وقال أبو حنيفة: لا تجوز. وقال مالك والشافعي - في أحد قوليه -: لا تجوز، فإن وقع مضى. وقال بعض أصحابنا بجواز ذلك ابتداءً.
و(الرَّوحاء): موضع معروف من عمل الفرع، بينه وبين المدينة نحو الأربعين ميلًا. وفي كتاب مسلم: ستة وثلاثون ميلًا. وفي كتاب ابن أبي شيبة: ثلاثون ميلًا. و (الركب): أصحاب الإبل الرَّاكبون عليها.
وقوله (1): (مَنِ القوم؟ ) سؤال من لم يعلم مَن كانوا، إما لأنهم كانوا في ليل، وإما لأن هؤلاء الركب (2) كانوا فيمن أسلم ولم يهاجروا.
و(رفع المرأة الصبيَّ)؛ يدل على صغره، وأنه لم يكن جفرًا (3)، ولا مراهقًا؛ إذ لا ترفعه غالبًا إلا وهو صغير. وفي الموطأ: فأخذت بضبعي (4) صبي لها وهو في محفّتها. وفي غيره: فأخرجته من محفّتها. وهو حجة للجمهور في أن الصغير ينعقد حجُّه، ويجتنب ما يجتنبه الكبير (5). وهو ردٌّ على قوم من أهل البدع منعوا حج الصبيِّ،
(1) في الأصول: وقولهم. والصواب ما أثبتناه.
(2)
في (ج): القوم.
(3)
قال في اللسان: الجَفْر: الصبي إذا انتفخ لحمه، وأكل، وصارت له كرش.
(4)
يقال: أخذ بضبعيه، أي: أمسك بعضديه.
(5)
ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
قَالَ: نَعَم، وَلَكِ أَجرٌ.
رواه أحمد (1/ 219)، ومسلم (1336)(409)، وأبو داود (1736)، والنسائي (5/ 120 - 121).
* * *
ــ
وعلى أبي حنيفة إذ يقول: لا ينعقد، وإنما هو عنده من باب التمرين، ولا يلزم أن يجتنب شيئا يجتنبه المحرم. وكلُّ من قال بصحة حج الصغير متفقون: على أنه لا يجزئه عن حجة الإسلام. وقد شذَّت فرقة لا مبالاة بها، فقالت: يجزئه عنها (1)، بدليل: أن الصبي لا يجب عليه حكم شرعًا اتفاقًا، وإنما الخلاف: هل يُخاطبون بخطاب الندب من جهة الله تعالى؟ أو: إنما المخاطب أولياؤهم بحملهم على آداب الشريعة، وتمرينهم عليها، وأخذهم بما يمكنهم من أحكامها في أنفسهم، وأموالهم. وهذا هو المرتضى في (2) الأصول. ثم لا بُعدَ في أن الله تعالى يثيبهم على ما يصدر عنهم من أفعال البر والخير، فإن الثواب فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء. وبهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكثير من العلماء. أعني: أنهم قالوا: إنهم يثابون على طاعاتهم، ولا يعاقبون على سيئاتهم.
واختلف العلماء في الصبي إذا أحرم بالحج ثم بلغ: فقال مالك: لا يرفض إحرامه، ويتم حجَّه، ولا يجزئه عن حجة الإسلام. وقال: إن استأنف الإحرام قبل الوقوف بعرفة أجزأه عنها. وقال أبو حنيفة: يلزمه تجديد النية للإحرام، ورفض الأولى، إذ لا يترك فرضٌ لنافلة. وقال الشافعي: يجزئه، ولا يحتاج إلى تجديد نيَّةٍ.
والخلاف في يحرم ثم يُعتق كالخلاف في الصبي.
وقوله: (ولك أجر)؛ يعني: فيما تكلفته من أمره بالحج وتعليمها إيَّاه، وتجنيبها إيَّاه ممنوعات الإحرام.
(1) زاد في (ج): وهو فاسد.
(2)
في (ج): من.