الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
الحياة البرزخية
.
تحدث الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله عن عذاب القبر ونعيمه، وهل يرى أهل البرزخ بعضهم بعضا، وفيما يلي ذكر ذلك.
والبرزخ في اللغة: كل حاجز بين شيئين، فالبرزخ بين الدنيا والآخرة (1).
واصطلاحاً: هو مدة احتباسهم -أي البشر- عن الجنة أو النار ما بين الموت والبعث (2).
أولاً: ثبوت عذاب القبر ونعيمه:
قال الشيخ رحمه الله عند قوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} غافر: 45 - 46: "فيه دليل على إثبات عذاب القبر كما يقول أهل السنة، وذلك لأن عرضهم على النار غدواً وعشياً بعد الموت وقبل الساعة، بدليل قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} غافر: 46"(3).
وقال الشيخ رحمه الله: " وثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يستعيذ في صلاته من عذاب القبر ويأمر أصحابه بذلك) (4)، واستعاذ بالله من عذاب القبر ثلاث مرات في بقيع الغرقد حينما كان يلحد لميت من أصحابه (5)، ولو لم يكن عذاب القبر ثابتاً لم يستعذ بالله ولا أمر أصحابه به"(6).
(1) ينظر: إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس (3/ 122)، لسان العرب (3/ 8)، مختار الصحاح (1/ 20).
(2)
ينظر: رفع الأستار للصنعاني (1/ 94).
(3)
تعليق الشيخ على تفسير الجلالين (ص 14)، وانظر: فتاوى اللجنة (3/ 442 - 443).
(4)
أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب ما يتعوذ من الجن برقم (2822)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب ما يستعاذ منه في الصلاة برقم (588)،
(5)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (18140)، وعبد الرزاق في مصنفه برقم (6737)، والآجري في "الشريعة"(ص 367 - 370)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر برقم (20، 1، 2)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح، وصححه الحاكم (1/ 37 - 40)، وقال الشيخ الألباني في أحكام الجنائز وبدعها (ص 198): القسم الأول منه إلى قوله: وكأن على رؤوسنا الطير صحيح على شرط الشيخين.
(6)
فتاوى اللجنة (3/ 443).
وقال رحمه الله: " وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} إبراهيم: 27، يدخل فيه تثبيت المؤمن وخذلان الكافر عند سؤال كل منهما في قبره، وأن المؤمن يوفق في الإجابة وينعم في قبره، وأن الكافر يخذل ويتردد في الإجابة ويعذب في قبره، وسيجيء ذلك في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، ومن أدلة عذاب القبر أيضاً ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس م أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال:(إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) فدعا بجريدة رطبة فشقها نصفين وغرز على كل قبر واحدة وقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)(1).
وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت سؤال الميت في قبره وثبوت نعيمه فيه أو عذابه حسب عقيدته وعمله بما لا يدع مجالاً للشك في ذلك، ولم يعرف عن الصحابة ن في ثبوت ذلك خلاف؛ ولذا قال بثبوته أهل السنة والجماعة، ومما ورد في ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والحاكم في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله كأن على رؤوسنا الطير وهو يلحد له، فقال:(أعوذ بالله من عذاب القبر) ثلاث مرات، ثم قال: (إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا
…
الحديث) (2) " (3).
وقد ثبت عذاب القبر ونعيمه بالكتاب والسنة والإجماع وقد ذكر جزءاً منها الشيخ رحمه الله في حديثه السابق؛ والأحاديث تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتنة من حديث البراء ابن عازب، وأنس بن مالك، وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم (4).
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب الجريد على القبر وباب عذاب القبر من الغيبة والنميمة برقم (1361، 1378)، ومسلم في كتاب الطهارة باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه برقم (292).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (18140)، وعبد الرزاق في مصنفه برقم (6737)، والآجري في "الشريعة"(ص 367 - 370)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر برقم (20، 1، 2)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح، وصححه الحاكم (1/ 37 - 40)، وصححه الألباني في شرح العقيدة الطحاوية (ص 396).
(3)
فتاوى اللجنة (3/ 443، 447).
(4)
مجموع الفتاوى (4/ 257)، وينظر:(4/ 285)، والروح لابن القيم (1/ 384)، وشرح الطحاوية (2/ 578)، ونظم المتناثر للكتاني (ص 125).
وأجمعت الأمة على وقوعها، والتعوذ بالله عز وجل منها (1).
وهي عامة لكل ميت مقبور وغير مقبور، وإضافتها للقبر للغالب (2).
ثانياً: هل يرى أهل البرزخ بعضهم بعضاً:
ويقول الشيخ عبد الرزاق رحمه الله: " ولا نعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً يعتمد عليه، في أن أهل البرزخ يرى بعضهم بعضاً ويتحدث بعضهم مع بعض"(3).
المسألة من مسائل الغيب التي لا مجال للعقل فيها، ولا حكم إلا للنصوص، وقد وردت الأحاديث في تزاور المؤمنين في قبورهم، والأمر بتحسين الأكفان لموتاهم، لأجل ذلك، وهذا يقتضي أنه يحصل لهم تزاور في قبورهم على هيئة وكيفية، لا علم لنا بها، إنما ذلك في علم الغيب، وأمور البرزخ وأحواله لا تقاس بأحوال الدنيا (4).
والأرواح - كما بين ابن القيم- قسمان: أرواح معذبة، وأرواح منعمة، فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة، فتتلاقى، وتتزاور، وتتذكر ما كان منها في الدنيا، وما يكون من أهل الدنيا (5).
"وكل روح تكون مع رفيقها الذي، هو على مثل عملها، فروح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى، والدليل على تزاورها، وتلاقيها قول الله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ڑ}
(1) ينظر: رسالة إلى أهل الثغر للأشعري (ص 279).
(2)
ينظر: الروح (1/ 299)، وشرح الطحاوية (2/ 579)، وشرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور للسيوطي (ص 143)، ولوامع الأنوار البهية (2/ 9)، جمع الشتيت في شرح أبيات التثبيت للصنعاني (ص 82).
(3)
فتاوى اللجنة (3/ 456).
(4)
ينظر: التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة لمحمد بن فرج القرطبي (ص 72)، والمسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد (ص 705 - 707).
(5)
ينظر: الروح (ص 17) وما بعدها، وقد أكثر ابن القيم والسيوطي من إيراد الأحاديث والآثار والحكايات على ذلك؛ ينظر: شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور لجلال الدين السيوطي (ص 182) وما بعدها، والتذكرة (ص 155)، ومجموع الفتاوى (24/ 368 - 369).
النساء: 69، وهذه المعية ثابتة في الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار الجزاء، والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاث.
وقد أخبر الله عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وأنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وهذا يدل على تلاقيهم، وأما تلاقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات، فشواهد هذه المسألة وأدلتها أكثر من أن تحصر، والحس والواقع شاهد بذلك، وتلتقي أرواح الأحياء والأموات كما تلتقي أرواح الأحياء، قال الله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} الزمر: 42، فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات، تلتقي في المنام، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها (1)، ويدل على ذلك -أيضا- أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره، ويخبره الميت بما لا يعلم الحي، فيصادف خبره كما أخبر في الماضي والمستقبل، وربما أخبره بمال دفنه الميت في مكان لم يعلم به سواه، وربما أخبره بدَيْن عليه " (2).
قال الحكيم الترمذي (3):
الأرواح تجول في البرزخ فتبصر أحوال الدنيا وأحوال الملائكة تتحدث في السماء عن أحوال الآدميين وأرواح تحت العرش وأرواح طيارة إلى الجنان إلى حيث شاءت على أقدارهم من السعي إلى الله أيام الحياة (4).
(1) ينظر: تفسير الطبري) 24/ 9)، وتفسير القرطبي (15/ 260)، شرح الصدور (ص 262)، الآيات البينات في عدم سماع الأموات على مذهب الحنفية السادات للألوسي تحقيق الألباني (ص 106).
(2)
شرح العقيدة الطحاوية، لفضيلة الشيخ عبدالعزيز الراجحي حفظه الله وهو عبارة عن أشرطة مفرغة ضمن الدورة العلمية التي أقيمت بجامع شيخ الإسلام ابن تيمية، موجودة في المكتبة الشاملة (ص 299).
(3)
هو: محمد بن علي بن الحسن بن بشر، أبو عبد الله، المشهور بالحكيم الترمذي، من مؤلفاته: ختم الولاية، ونوادر الأصول، وعلل الشريعة وغيرها، توفي سنة (319 هـ).
ينظر: سير أعلام النبلاء (13/ 439)، طبقات الشافعية الكبرى (2/ 245).
(4)
شرح الصدور (ص 243).