الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"فمن وقع في كفرٍ عملاً أو قولاً ثم أقيمت عليه الحجة وبُيِّن له أنَّ هذا كفرٌ يخُرج من الملة فأصَرَّ على فعله طائعاً غير مُكْرَهٍ، متعمّداً غير مخطئ ولا متأوّلٍ فإنَّه يكفر ولو كان الدافع لذلك الشهوة أو أيّ غرضٍ دنيويٍّ، وهذا ما عليه أهل الحق وعليه ظاهرين إلى قيام الساعة إن شاء الله"(1).
"والمتأولون من أهل القبلة الذين ضلوا وأخطؤوا في فهم ما جاء في الكتاب والسنة مع إيمانهم بالرسول واعتقادهم صدقه في كل ما قال، وأن ما قاله كان حقاً والتزموا ذلك، لكنهم أخطؤوا في بعض المسائل الخبرية أو العملية، فهؤلاء قد دل الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدين، وعدم الحكم لهم بأحكام الكافرين، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن بعدهم من أئمة السلف على ذلك"(2).
وضابط التأويل المعتبر الإعذار به شرعاً والمانع من الكفر ما كان تأويلاً سائغاً بخلاف ما هو دون ذلك، وهذا يختلف باختلاف ظهور المسائل، وصراحة أدلتها، وقوة التأويل فيها، وورود الشبهة عليها، وسلامة قصد المتأول، وامتلاكه آلة النظر (3).
وقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جملة من المسائل التي يعذر بالتأويل فيها فيقاس عليها نحوها (4).
-
من يعذر لعدم البلاغ لا لمجرد الجهل:
يقرر الشيخ رحمه الله: "بأنه لا يعذر المكلف بعبادة غير الله أو تقربه بالذبائح لغير الله أو نذره لغير الله ونحو ذلك من العبادات التي هي من اختصاص الله إلَاّ إذا كان في بلاد غير إسلامية ولم تبلغه الدعوة، فيعذر لعدم البلاغ لا لمجرد الجهل؛ لما رواه مسلم عن أبي هريرة
(1) التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو العمل أو الاعتقاد، لعلوي بن عبد القادر السَّقَّاف (ص 14).
(2)
الإرشاد في معرفة الأحكام لابن سعدي (ص 207)
(3)
ينظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 510 - 511)، والشفا (2/ 1051 - 1065)، والدرة لابن حزم (ص 414)، ومجموع الفتاوى (3/ 231)، والعواصم والقواصم (4/ 176)، ومنهاج التأسيس والتقديس للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (ص 102)، والإرشاد في معرفة الأحكام (ص 209)، آراء ابن حجر الهيتمي الاعتقادية (ص 694).
(4)
ينظر: مجموع الفتاوى (20/ 33 - 36).
- رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة- أَي ممنْ هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلُّهم يجب عليه الدخول في طاعته - يهودي ولا نصراني ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلَاّ كان من أصحاب النار)(1)، فلم يعذر النبي صلى الله عليه وسلم من سمع به، من يعيش في بلاد إسلامية قد سمع الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يعذر في أصول الإيمان بجهله" (2).
العذر بالجهل له اعتبار في مسألة التكفير بالنسبة لمن يغلب عليه التلبس به، كمن أسلم حديثاً، ومن نشأ في البادية ونحوهما.
" لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيهُ أمته، ولا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول، فإن خالف بعد ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، فأما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يقدر بالعقل، ولا بالروية والقلب والفكر، ولا نكفرّ بالجهل بها أحداً إلا بعد انتهاء الخبر إليه به"(3).
قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} الإسراء: 15، وقوله:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} القصص: 59. وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} النساء: 165، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} إبراهيم: 4، وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} التوبة: 115، وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ
(1) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل، برقم (219).
(2)
فتاوى اللجنة (1/ 765).
(3)
مختصر العلو للذهبي (ص 177)، ينظر: إثبات صفة العلو لابن قدامة (ص 124) تحقيق بدر البدر، اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (ص 195)، المحلى لابن حزم (13/ 151)، خلق أفعال العباد للبخاري (ص 61).
قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} الأنعام: 155 - 157.
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحجة لا تقوم إلا بعد العلم والبيان.
وأما السنة: ولعل من أظهر الأدلة (1) في اعتبار الجهل عذراً، حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إن رجلاً لم يعمل خيراً قط فقال لأهله إذا مات فأحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباَ لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل، فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو قائم بين يديه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله له)(2).
قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله: " فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام، والناشئ بغير دار الإسلام، أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم: لم يحكم بكفره"(3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إني دائماً - ومن جالسني يعلم ذلك مني - من أعظم الناس نهياً عن أن يُنسب معيَّن إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله تعالى قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر، ولا بفسق، ولا بمعصية
…
وكنت أبيِّن أن ما نُقل عن السلف والأئمَّة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا: فهو أيضاً حقٌّ، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين
…
والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما
(1) والأدلة هاهنا كثيرة، ولعلم من آكد هذه الأدلة حديث الذي أمر أهله بإحراقه والذي قال عنه ابن تيمية:"وهو حديث متواتر عن الني صلى الله عليه وسلم، رواه أصحاب الحديث والأسانيد من حديث أبي سعيد، وحذيفة، وعقبة بن عمرو، وغيرهم من وجوه متعددة". مجموع الفتاوى (12/ 491)، ينظر: مجموع الفتاوى (11/ 408، 409)، ومجموع الزوائد للهيتمي (10/ 194 - 196)، العواصم والقواصم لابن الوزير (4/ 175).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3478)، وأخرجه مسلم في كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله، برقم (2756).
(3)
المغني (8/ 131).
قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لكن الرجل قد يكون حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً " (1).
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: " إن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام والذي نشأ ببادية، أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف (2) فلا يكفر حتى يعرف، وأما أصول الدين التي أوضحها الله كتابه فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة"(3).
ويقول- في موضع آخر-: " إن الشخص المعّين إذا قال ما يوجب الكفر، فإنه لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي يخفى دليلها على بعض الناس وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله، ولا تجعل هذه الكلمة عكازة تدفع بها في نحر من كفرّ البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات، بعد بلوغ الحجة ووضح المحجة"(4).
والحاصل أن الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفراً، كما يكون معذوراً بما يقوله أو يفعله مما يكون فسقاً، وذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال أهل العلم، وهو مقتضى حكمة الله تعالى، ولطفه، ورأفته، فلن يعذب أحداً حتى يعذر إليه (5)،
(1) مجموع الفتاوى (3/ 229).
(2)
الصرف: صرف الرجل عما يهواه؛ كصرفه مثلاً عن محبة زوجته إلى بغضها. والعطف: عمل سحري كالصرف، ولكنه يعطف الرجل عما لا يهواه إلى محبته بطرق شيطانية. ينظر: فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (1/ 144)، التبيان شرح نواقض الإسلام للعلوان (1/ 33)، التمهيد لشرح كتاب التوحيد لصالح آل الشيخ (1/ 422).
(3)
مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (3/ 11).
(4)
الدرر السنية (8/ 244)، ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/ 54، 12/ 180)، الدرر السنية (1/ 66)، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (1/ 73، 74)، مجموع فتاوى ابن باز (4/ 26، 27).
(5)
قيام الحجة تقتضي الإدراك وفهم الدلالة، والإرشاد، وإن لم يتحقق توفيق أو انتفاع كما قال الله تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} فصلت: 17.
ينظر: نواقض الأيمان القولية والعملية، د. عبد العزيز العبد اللطيف (ص 74).