الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - الجبرية والمعتزلة
.
قال الشيخ رحمه الله: " القدرة نوعان: الأولى: بمعنى توفر الأسباب والآلات، وهي مناط التكليف، فيها يتمكن العبد من القيام بما كلف به، وهي موجودة في كل مكلف مسلم أو كافر مطيع أو عاص، وتكون مقارنة للفعل وقد تتقدم عليه، وبذلك يتبين أن التكليف بالفعل لا يتقدم عليها. والثانية: بمعنى التوفيق وهذه مقارنة للفعل وموجودة فيمن أطاع دون من عصى وليست مناطاً للتكليف.
وقد أثبت الجبرية القدرة بمعنى التوفيق ونفوا القدرة بمعنى توفر الأسباب والآلات، وذهب المعتزلة إلى العكس" (1).
القدرة التي يتمكن بها العبد من الفعل، تسمى بالاستطاعة، وقد عُرفت بأنها:"عرض يخلقه الله في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية"(2)، وهي في عرف المتكلمين:"عبارة عن صفة بها يتمكن الحيوان من الفعل والترك"(3).
وقد وقع الخلاف فيها على أقوال:
1 -
قول الجهمية، وهو أنه ليس للعبد أي استطاعة، لا قبل الفعل ولا معه، بل له قدرة شكلية غير مؤثرة في الفعل أصلاً، وتسمى فعلا له تجوزاً (4).
2 -
قول المعتزلة ومن وافقهم: وهو أن الله تعالى قد مكن الإنسان من الاستطاعة، وهذه الاستطاعة قبل الفعل، وهي قدرة عليه وعلى ضده، وهي موجبة للفعل (5).
(1) تعليق الشيخ على الإحكام (1/ 179).
(2)
التعريفات للجرجاني (ص 12).
(3)
التعريفات (ص 12).
(4)
ينظر: الملل والنحل (1/ 85)، البحر الزخار لابن المترضى (1/ 122)، الفرق بين الفرق (ص 2111)، الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد للجويني (ص 215).
(5)
ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 300)، الفرق بين الفرق (ص 116)، نظرية التكليف آراء القاضي عبد الجبار الكلامية، لعبد الكريم عثمان (ص 317) وما بعدها، شرح الأصول الخمسة للهمداني المعتزلي (ص 398).
3 -
قول الأشاعرة ومن وافقهم: وهو أن الاستطاعة مع الفعل لا تجوز أن تتقدمه ولا أن تتأخر عنه، بل هي مقارنة له، وهي من الله تعالى، وما يفعله الإنسان بها فهو كسب له (1).
4 -
قول أهل السنة -وهو الذي عليه محققو المتكلمون وأهل الفقه والحديث والتصوف وغيرهم- وهو التفصيل:
أ- فهناك استطاعة للعبد بمعنى الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات، وهي التي تكون مناط الأمر والنهي، وهي المصححة للفعل، فهذا لا يجب أن تقارن الفعل، بل تكون قبله متقدمة عليه، وهذه الاستطاعة المتقدمة صالحة للضدين ومثالها قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} آل عمران: 97، فهذه الاستطاعة قبل الفعل ولو لم تكن إلا مع الفعل لما وجب الحج إلا على من حج، ولما عصى أحد بترك الحج.
وهذه الاستطاعة هي مناط الأمر والنهي، وهي التي يتكلم فيها الفقهاء وهي الغالبة في عرف الناس.
ب- وهناك الاستطاعة التي يجب معها وجود الفعل، وهذه هي الاستطاعة المقارنة، الموجبة له، ومن أمثلتها قوله تعالى:{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)} هود: 20، وقوله:{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)} الكهف: 101، "فالمراد بعدم الاستطاعة مشقة ذلك عليهم وصعوبته على نفوسهم، فنفوسهم لا تستطيع إرادته وإن كانوا قادرين على فعله لو أرادوه، وهذه حال من صده هواه أو رأيه الفاسد عن استماع كتب الله المنزلة واتباعها وقد أخبر أنه لا يستطيع ذلك، وهذه الاستطاعة هي المقارنة الموجبة له"(2)، وهي الاستطاعة الكونية التي هي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل (3).
(1) ينظر الإرشاد (ص 219 - 220)، معالم أصول الدين للرازي (ص 83)، المعتمد للقاضي أبي يعلى (ص 142).
(2)
درء التعارض (1/ 61).
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 129 - 130، 290 - 292، 371 - 376، 441)، ومنهاج السنة (1/ 7 - 8، 369 - 373)، درء التعارض (9/ 241)، موقف ابن تيمية من الأشاعرة، د. المحمود (3/ 1331 - 1332).
وقد توسط أهل السنة والجماعة في مسألة القدر وقدرة العباد بين المعتزلة المسمّون بـ"القدرية"، الذين انتشر على أيديهم القول بنفي القدر، وإنكار علم الله السابق بالأمور؛ وبين الجبرية الذين نفوا الفعل عن العبد وأضافوه إلى الله وقالوا بأن الله يجبر العباد على أعمالهم، والعباد مجبورون على أفعالهم وإنما تضاف الأعمال إلى العباد على جهة المجاز فقط كما تنسب للشمس ضوؤها فيقال: إنها مضيئة لأن الله جعلها كذلك؛ ومن أهم فرق الجبرية الجهمية (1).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إن التأثير إذا فسر بوجود شرط الحادث أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر، وانتفاء موانع - وكل ذلك بخلق الله تعالى- فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار، وإن فسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون ولا معاوق مانع، فليس شيء من المخلوقات مؤثرا، بل الله وحده خالق كل شيء لا شريك له ولا ند له، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
…
فإذا عرف ما في لفظ التأثير من الإجمال والاشتراك ارتفعت الشبهة، وعرف العدل المتوسط بين الطائفتين" (2)(3).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: " الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب في الكلية قدح في الشرع، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب، فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافياً في حصول النبات، بل لا بد من ريح مربية بإذن الله ولا بد من صرف الانتفاء عنه، فلا بد من تمام الشروط وزوال الموانع، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وكذلك الولد لا يولد بمجرد
(1) ينظر: الفرق بين الفرق (ص 19)، الإيمان لابن تيمية (368)، القضاء والقدر، د. عبد الرحمن المحمود (ص 168) وما بعدها.
(2)
مجموع الفتاوى (8/ 134 - 135) وينظر: نفس المرجع (8/ 487 - 488) و (8/ 389 - 390).
(3)
ينظر غلو الجهمية في القدر: الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد لأبي الحسن الخياط (2/ 67 - 68)، شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (ص 233)، الكشاف للزمخشري (2/ 88).
إنزال الماء في الفرج، بل كم من أنزل ولم يولد له، بل لا بد من أن الله شاء خلقه، فتحبل المرأة وتربيه في الرحم، وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع" (1).
قال ابن عبد البر: " قال الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} القمر: 49، وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} التكوير: 29. فليس لأحد مشيئة تنفذ إلا أن تنفذ منها مشيئة الله تعالى، وإنما يجري الخلق فيما سبق من علم الله، والقدر سر الله لا يدرك بجدال ولا يشفي منه مقال، والحجاج فيه مرتجة، لا يفتح شيء منها إلا بكسر شيء وغلقه، وقد تظاهرت الآثار وتواترت الأخبار فيه عن السلف الأخيار الطيبين الأبرار بالاستسلام والانقياد والإقرار بأن علم الله سابق، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} فصلت: 46"(2).
(1) مجموع الفتاوى (8/ 70) ينظر: الجواب الكافي (ص 39 - 41)، ولطائف المعارف لابن رجب (ص 83) وما بعدها،.
(2)
التمهيد (6/ 13 - 14)، وينظر: شرح صحيح مسلم للنووي (16/ 195 - 196)،.