الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
جهود الشيخ في تقرير توحيد الألوهية
المطلب الأول
تعريف توحيد الألوهية وأساليب القرآن في تقريره
.
أ- تعريف توحيد الألوهية (1):
عرف الشيخ عبد الرزاق: توحيد الألوهية: "بأنه إفراد الله بالعبادة: قولاً، وقصداً، وفعلاً، فلا يُنذر إلا له، ولا تُقرَّب القرابين إلا إليه، ولا يُدعى في السراء والضراء إلا إياه، ولا يُستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، إلى غير ذلك من أنواع العبادة"(2).
الألوهية لغةً:
مصدر أَلَه يألَه ألوهة وألوهية (3).
يقول ابن فارس: " الألف واللام والهاء أصل واحد، وهو التعبد، فالإله الله تعالى، وسمي بذلك لأنه معبود، ويقال تأله الرجل إذا تعبد "(4).
(1) سمي توحيد الألوهية باعتبار إضافته لله ويسمى كذلك بتوحيد القصد لأنه مبني على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة، وتوحيد الإرادة لأنه مبني على إرادة وجه الله بالأعمال، وتوحيد العمل لأنه مبني على إخلاص العمل لله.
ينظر: مذكرة التوحيد (ص 29)، تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ص 38)، والدين الخالص لمحمد صديق حسن (1/ 60).
(2)
مذكرة التوحيد (ص 40).
(3)
ينظر: تهذيب اللغة (1/ 189)، الصحاح (6/ 2223)، لسان العرب (13/ 467)، القاموس المحيط (ص 1603).
(4)
معجم مقاييس اللغة (ص 86).
وقد بين الفيروز آبادي (1) أن في اشتقاق لفظ الإله ومعناه عشرين قولاً (2).
وتعريف الشيخ عبد الرزاق: يوافق تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية: حيث عرفه، بقوله:"فهذا التوحيد الذي في كتاب الله: هو توحيد الألوهية وهو أن لا تجعل ولا تدعو مع الله غيره"(3).
ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)} الإسراء: 39. وقوله سبحانه {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} القصص: 88.
ب- أساليب القرآن في تقرير توحيد الألوهية:
ويذكر الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله بعض أساليب القرآن في تقرير توحيد الألوهية وأن القرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد، وبيانه، وضرب الأمثال له، ومن هذه الأساليب التي بينها رحمه الله:
أولاً: تقرير توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية، كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} البقرة: 21، أي أن من أقر بأنه لا يخلق إلا الله، ولا يرزق إلا الله
…
لزمه أن لا يعبد إلا الله، إذ كيف يعبد من لا يخلق، ولا يرزق، ولا يملك من الأمر شيئاً؟!
قال رحمه الله: "إن الطريق الفطري لإثبات توحيد الإلهية الاستدلال عليه بتوحيد الربوبية. فإن قلب الإنسان يتعلق أولاً بمصدر خلقه، ومنشأ نفعه وضرهّ، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي تقربه إليه، وترضيه عنه، وتوثق الصلات بينه وبينه، فتوحيد الربوبية باب لتوحيد
(1) هو محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الفيروز آبادي الشيرازي الشافعي من أئمة اللغة والأدب، صنف في فنون متعددة، من مؤلفاته: القاموس المحيط، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، سفر السعادة توفي سنة 817 هـ.
ينظر: البدر الطالع للشوكاني (2/ 280)، شذرات الذهب (7/ 126)، طبقات المفسرين للداودي (1/ 312).
(2)
ينظر: القاموس المحيط (ص 1603).
(3)
ينظر مجموع الفتاوى (2/ 277)، وينظر درء تعارض العقل والنقل (7/ 397).
الإلهية
…
فقد استدل بتفرده بالربوبية، وكمال التصرف، وحمايته ما يريد أن يحميه، على استحقاقه وحده للعبادة، ووجوب إفراده بالإلهية" (1).
ثانياً: يقرره عن طريق تعجيز آلهة المشركين، فمن لا يقدر على الخلق والرزق والإحياء والإماتة
…
يكون عاجزاً، والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، قال تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)} النحل: 17.
قال الشيخ رحمه الله: " وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} يونس: 31، إلى أن قال: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)} يونس: 35، فقرّرهم -سبحانه- بما لا يسعهم إنكاره، ولا مخلص لهم من الاعتراف به من تفرده بالرزق، والملك، والتدبير، والإحياء، والإماتة، والبدء، والإعادة، والإرشاد، والهداية ليقيم به عليهم الحجة في وجوب تقواه دون سواه. وينكر عليهم حكمهم الخاطئ، وشركهم الفاضح، وعكوفهم على من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولا حياة ولا نشوراً"(2).
ثالثاً: يستدل بأسماء الله وصفاته على وحدانيته، وعلى بطلان الشرك، كما في قوله تعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} الحشر: 23.
قال الشيخ رحمه الله: " وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)} النمل: 59 - 60، إلى قوله تعالى:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)} النمل: 64، فأنكر -سبحانه- أن يكون معه من خَلَقَ، ودبَّر، أو صرف، وقدَّر، أو يُجيب المضطر إذا دعاه،
(1) مذكرة التوحيد (ص 40،41).
(2)
مذكرة التوحيد (41 - 43).
ويكشف السّوء، أو يولِّي، أو يعزل، وينصر، ويخذل، أو ينقذ من الحيرة، ويهدي من الضلالة، أو يبدئ ويعيد، ويبسط الرزق لمن يشاء، ويقدر. إلى غير ذلك مما استأثر الله به" (1).
رابعاً: يستدل بالآيات المشاهدة على وحدانية الله عز وجل، وهذا النوع كثير في القرآن، وذلك لأنه لا يخفى على ذي عقل.
قال الشيخ رحمه الله: " ثم استدل -سبحانه- على قدرته على البعث، وتفرده باستحقاقه الإلهية بآياته الكونية، فقال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)} النحل: 4 - 5، إلى قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)} النحل: 17 - 22، فجعل -سبحانه- تفرده بالربوبية خلقاً للحاضرين والسابقين، وتمهيد الأرض، ورفعه السماء بغير عمد يرونها، وإنزاله الأمطار ليحيي بها الأرض بعد موتها، ويخرج بها رزقاً لعباده باباً إلى توحيد الإلهية وآية بينة على استحقاقه وحده العبادة"(2).
خامساً: يقرره بضرب الأمثلة لبطلان الشرك، وصحة التوحيد.
وقد بين الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله ذلك، فقال: " أثبت الله تعالى لنفسه التفرد باستحقاق الألوهية، وأنكر أن يكون غيره مستحقاً لذلك؛ استقلالاً واشتراكاً لتنافيهما في الموجب، وهو الخلق؛ فلله الخلق والأمر وحده، وغيره ليس إليه شيء من ذلك، ومن ذلك قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا
(1) مذكرة التوحيد (43، 44).
(2)
مذكرة التوحيد (ص 42).
حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)} النحل: 75 - 76" (1).
إلى غير ذلك من طرق القرآن في تقرير توحيد الألوهية، والتي هي خبر المعصوم، وموجب الفطرة، ومقتضى العقل الصحيح.
قال الشيخ رحمه الله: " وهذا مما استقر في فطرهم، ونطقت به ألسنتهم، وبه قامت الحجة عليهم فيما دعتهم إليه الرسل من توحيد العبادة؛ وما ذكر من الآيات قليل من كثير؛ ومن سلك طريق القرآن في الاستدلال، واهتدى بهدي الأنبياء في الحجاج اطمأنت نفسه، وقوي يقينه، وانتصر على مناظره. فإن في ذلك الحجة، والبرهان من جهتين: الأولى: أنه خبر المعصوم. والثانية: أنه موجب الفطرة، ومقتضى العقل الصحيح"(2).
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: " لما كان توحيد الباري أعظم المسائل وأكبرها وأفرضها وأفضلها، وحاجة الخلق إليه وضرورتهم فوق كل ضرورة تقدر، فإن صلاحهم وفلاحهم وسعادتهم متوقفة على التوحيد نَوَّع الله الأدلة والبراهين على ذلك، وكانت أدلته واضحات، وبراهينه ساطعات"(3).
وما زال أهل السنة منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا وأهم المهمات عندهم هو توحيد الألوهية وتحقيقه، كما هي طريقة الأنبياء والرسل.
قال شيخ الإسلام: - بعد سوقه لأدلة هذا التوحيد من القرآن-: " ونظائر هذا في القرآن كثير، وكذلك في الأحاديث، وكذلك في إجماع الأمة لا سيما أهل العلم والإيمان منهم، فإن هذا عندهم قطب رحى الدين كما هو الواقع"(4).
(1) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام، تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي (3/ص 228).
(2)
مذكرة التوحيد (ص 44).
(3)
فتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن (ص 83).
(4)
مجموع الفتاوى (1/ 21).
اتفقت الشرائع عليه منذ آدم إلى عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول الشوكاني رحمه الله:" الشرائع كلها اتفقت على إثبات التوحيد، على كثرة عدد الرسل المرسلين وكثرة كتب الله عز وجل، المنزلة على أنبيائه"(1).
وبهذا يتبين لنا موافقة الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله أهل السنة والجماعة في بيان منهج القرآن في تقرير توحيد الألوهية (2).
(1) إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات للشوكاني (ص 5).
(2)
ينظر: مجموع تفسير ابن تيمية (41 - 44)،ومجموع الرسائل والمسائل النجدية لبعض علماء نجد الأعلام (5/ 97،186)، مجموع الفتاوى (1/ 65، 69، 70 - 93 - 97)(2/ 6)، النبوات (25، 26).