الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرازي (1) في كتابه "تأسيس التقديس"، فأتى شيخ الإسلام على جميع ما في كتاب الرازي ونقضه حرفاً حرفاً، وأتى فيه بعجائب العلوم القرآنية وسواطع الحجج الأثرية، وقابل الحجج العقلية بمثلها وبما يبطلها ويؤيد الحق، فكان ذلك العمل مما يحمده عليه أهل الإسلام والإيمان إلى أن تقوم الساعة.
فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق العقل وهو الذي أنزل الوحي {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} الأعراف: 54، فيستحيل وجود التعارض بين العقل والوحي، والله جل وعلا قد أعطى العقل القدرة على إدراك أن الوحي من عند الله، وإدراك أن الرسول صادق فيما جاء به عن الله، فإذا وصل العقل إلى هذه الحقيقة وجب عليه الانصياع لأوامر الدين والتقيد بها، لأنه مخلوق كسائر المخلوقات، أما أن يكون حاكماً في كل مسألة من مسائل الدين، فهذا تطوير للعقل مرفوض، وتعدٍّ للحدود يؤدي إلى هدم الشريعة، وهذا هو ما تنادي به العلمانية (2)
المعاصرة (3).
وما جهود الشيخ في تقرير توحيد الأسماء والصفات (4) إلا أدل دليل على هذا المنهج.
رابعاً: إبراز وسطية أهل السنة والجماعة في أبواب الاعتقاد
.
إن المتأمل لكلام الشيخ عبد الرزاق رحمه الله، يجد أن إبرازه لتوسط أهل السنة والجماعة في أبواب الاعتقاد لا تكاد تغيب عن باله؛ ومن أمثلة ذلك:-
(1) هو محمد بن عمر بن الحسين التميمي البكري، والملقب بفخر الدين، من كبار المتكلمين، وهو ممن خلط الكلام بالفلسفة، ولد سنة 544 هـ، وتوفي 606 هـ.
ينظر: وفيات الأعيان (3/ 381)، وسير أعلام النبلاء (21/ 500 - 501).
(2)
العلمانية: حركة تهدف إلى فصل الدين وعزله عن شؤون الحياة العامة في الحكم والسياسة والاقتصاد والشؤون الاجتماعية والتعليمية وغيرها، وحصره في المسجد أو الضمير فقط. وقد أفردته بمبحث في نهاية هذا البحث.
ينظر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة (ص 103)، للشيخين د. ناصر القفاري، أ. د. ناصر العقل.
(3)
منهج الإمام ابن أبي العز الحنفي وآراؤه في العقيدة من خلال شرحه للطحاوية لعبد الله الحافي (ص 66 - 67).
(4)
ينظر: المبحث الثالث في الفصل الثاني من الباب الأول من هذه الرسالة.
1 -
ما قرره: من أن أهل السنة والجماعة وسط في حكم مرتكب الكبيرة بين المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب، وبين الخوارج والمعتزلة الذين يخرجون صاحبها من الإيمان ويحكمون بخلوده في النار إن مات عليها من غير توبة.
فأهل السنة والجماعة يرون أنه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأنه تحت مشيئة الله إن مات ولم يتب، إن شاء الله غفر له ودخل الجنة ابتداءً، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يخرج من النار، مستدلين بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} النساء: 48 (1).
2 -
كذلك ما قرره من أن أهل السنة والجماعة وسط في مسألة القدر بين الجبرية المنكرين للأفعال الاختيارية لبني الإنسان، وبين المعتزلة القائلين بأن العبد يخلق فعل نفسه، وينكرون مشيئة الله وخلقه لذلك الفعل، فقرر: أن للعبد فعلاً وكسباً بقدرته واختياره، وأن ذلك واقع بمشيئة الله وقدرته التي لا يخرج عنها شيء في هذا العالم، ثم فرّق بين نوعين من المشيئة والإرادة، وأن هناك مشيئة وإرادة شرعية ودينية، وهناك مشيئة وإرادة كونية، وقد هدى الله أهل السنة لفهم هذا الفرق فقالوا بالحق الذي نطقت به نصوص الكتاب والسنة (2).
3 -
ومن ذلك إبرازه لوسطية أهل السنة والجماعة في باب صفات الله تعالى وأنهم وسط بين الممثلة وبين المعطلة. الممثلة الذين مثلوا الله تعالى بخلقه، والمعطلة الذين نفوا عنه ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، أو نفوا بعض ذلك كالصفات الفعلية والخبرية، لكن أهل السنة والجماعة أثبتوا لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، على حدّ قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11 (3).
(1) ينظر: مسألة المعتزلة، في القسم الأول من المبحث الثالث في الفصل الثاني من الباب الثاني.
(2)
ينظر: مسألة هل الإنسان مخير أم مسير، المطلب الثالث من المبحث الخامس في الفصل الرابع من الباب الأول.
(3)
ينظر: المطلب الأول في المبحث الثالث من الفصل الثاني في الباب الأول.
4 -
ومن ذلك إبرازه لوسطية أهل السنة والجماعة في باب الصحابة رضي الله عنهم وفي آل بيته صلى الله عليه وسلم بين الروافض والنواصب.
فالروافض قد طعنوا في عدالة كثير من الصحابة رضي الله عنهم وخاصة الشيخين أبي بكر وعمر، وكذلك في عثمان، ولم يترضوا إلا على علي ونفر قليل من الصحابة، فضلّلوا خير أمة أخرجت للناس.
والنواصب هم الذين يبغضون علياً رضي الله عنه وأهل بيته ويسبُّونهم.
فأهل السنة يوالون الصحابة جميعاً ويفضلونهم على من بعدهم مستدلين على ذلك بالكتاب والسنة وإجماع الأمة على ذلك، ويقولون أفضل هذه الأمة بعد نبيها الخلفاء الراشدون، وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم من آمن قبل الفتح، والمهاجرون أفضل من الأنصار، وليس التفضيل قدحاً في المفضول، ولكنه العدل والإنصاف الذي دلّ عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالعدل قامت السموات والأرض، فأهل السنة يتولون جميع الصحابة ولا يتبرؤون من أحد منهم (1).
5 -
ومن معالم الوسطية كذلك لدى أهل السنة والجماعة موقفهم من المبتدعة والمخالفين، فلا يكفرون كل من قال قولاً مبتدعاً، فإن الرجل يكون مؤمناً ظاهراً وباطناً، لكن تأوَّل تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً، وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط بمجرد ذلك إلا أن يدل دليل شرعي؛ لكن يُبين أن هذه الأقوال المبتدعة المنحرفة، المتضمنة نفي ما أثبته الله ورسوله، أو إثبات ما نفاه الله ورسوله، أنها كفر - إن كانت مكفرة- ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويقال أن من قالها فهو كافر، ونحو ذلك على سبيل العموم، أما الشخص المُعين فلا يشهدون على معيَّن أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه؛ لأن الشخص المعيَّن يمكن أن يكون ممن لم يبلغه النص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أو جبت له رحمة الله.
(1) ينظر: المسألة التاسعة: موقف أهل البدع وأهل السنة من الصحابة، من المطلب الأول في المبحث الأول من الفصل الثالث في الباب الأول.