الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - دوام الجنة والنار:
قال الشيخ رحمه الله: " اتفق أهل السنة على أن الجنة لا تفنى، وذهب الجمهور منهم إلى أن النار أيضاً لا تفنى وقالت طائفة قليلة منهم بفناء النار.
والدليل على بقاء الجنة من الكتاب:
قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} الرعد: 35، وقال تعالى:{لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)} الحجر: 48، وقال تعالى:{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} ص: 54، وقال تعالى:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)} الدخان: 56، وقال تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} هود: 108.
واختلف السلف في الاستثناء من خلود المؤمنين في الجنة بقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} هود: 108، فقيل: إنه استثناء للمدة التي يمكثها عصاة المؤمنين في النار قبل دخولهم الجنة من مدة خلودهم في الجنة، فالمعنى يخلد المؤمنون في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا مدة شاء ربك أن يقضيها عصاة المؤمنين في النار وقيل دخولهم الجنة.
وقيل: إنه استثناء الرب ولا يفعله، كقولك: والله لا أكرمن إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا ترى إلا إكرامه.
وقريب منه قيل: من أن الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله، لا أنهم باستقرارهم في الجنة وتمكنهم منها خرجوا من مشيئة الله، ولا ينافي ذلك إرادته إرادة كونية أن يخلدوا فيها، ونظيره قوله تعالى:{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)} الإسراء: 86، وهو سبحانه بقاء ما أوحى به إلى رسوله، وقوله: قال تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} الشورى: 24، وهو سبحانه لا يشاء الختم على قلب رسوله، بل أراد له استمرار الهداية والإمداد بالنور وصفاء البصيرة، وقوله تعالى:{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} يونس: 16، وقد شاء سبحانه إعلامهم به،
وتلاوة رسوله القرآن عليهم، إلى غير هذا من النظائر التي يقصد بذكر المشيئة فيها إثبات كمال الاختيار، وأن الأمور لما تخرج من دائرة تقديره سبحانه وتصريفه.
واختار ابن جرير أن "لا" بمعنى "لكن"، وعليه يكون الاستثناء منقطعاً، والمعنى خالدين فيها سوى ما شاء ربك من زيادة النعيم، أو لكن هنا من زيادة النعيم والإكرام على الخلود ما لا يقدر قدره إلا الله، فليس المراد قطع أمد الخلود ولكن المراد زيادة نعيم إلى جانب خلودهم في الجنة بدليل ما ختمت به الآية من قوله تعالى:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} هود: 108.
الدليل من السنة:
- على أبدية الجنة قوله صلى الله عليه وسلم: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت)(1) وقوله: (ينادي مناد يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا)(2)، وقوله:(يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت)(3) " (4).
بين الشيخ رحمه الله الآراء في أبدية النار، فقال: " أما أبدية النار: ففيها آراء كثيرة للسلف منها رأيان:
الأول: رأي جمهور السلف، قالوا: إن النار باقية لا تفنى، ومن دخل بقي مخلدا فيها أبدا إلا من دخلها من عصاة المؤمنين فإنهم يخرجون منها.
واستدلوا على بقائها ومن بها من الكافرين بقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} البقرة: 167، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب في دوام نعيم أهل الجنة
…
برقم (2836).
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب في دوام نعيم أهل الجنة
…
برقم (2837).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب صفة الجنة والنار برقم (6548)، ومسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء برقم (2850).
(4)
مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (11 - 12).
مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)} المائدة: 36، وقوله:{لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)} الزخرف: 75، قوله:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} فاطر: 36، وقوله: قال تعالى: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} الإسراء: 97، وغيرها من الآيات.
الرأي الثاني: أن النار تفنى بعد أن يستوفي الكفار نصيبهم من العذاب فيها، ونسب هذا القول إلى عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة من الصحابة (1)، وابن تيمية وابن القيم (2)
وجماعة، واستدل لهذا الرأي بقوله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)} الأنعام: 128، وقال:{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} هود: 106 - 107، قالوا: استثنى من الخلود في الآيتين بقوله في الآية الأولى {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وبقوله في الآية الثانية {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ولم يأتِ بعد الاستثناءين ما يدل على عدم الانقطاع وانتهاء العذاب كما جاء عقب الاستثناء من الخلود في نعيم الجنة، فإن الآية ختمت بقوله تعالى:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)}
(1) ينظر: الرد على من قال بفناء الجنة والنار لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق أ. د. محمد بن عبد الله السمهري (ص 53).
(2)
ينبغي أن ننبه أن لابن تيمية وابن القيم قولاً بعدم فناء النار، جاء في مجموع فتاوى شيخ الإسلام (18/ 307) قوله في إجابة سؤال:" وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش وغير ذلك، ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين، كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله، وسنة رسوله، وجماع سلف الأمة وأئمتها" وليس في مؤلفات شيخ الإسلام شيء صريح في أنه لا يقول بفناء النار؛ أما ابن القيم ففي كتاب "حادي الأرواح" ذكر بعض الآثار وبعض الأدلة للقائلين بفناء النار، ولكنه ليس صريحاً في أنه يقول بفناء النار، لكن ذكر بعض الأدلة لمن يقول بفناء النار. ينظر: كلام الشيخ عبد العزيز الراجحي في شرح الرد على الجهمية - المكتبة الشاملة-، والرد على من قال بفناء الجنة والنار وبيان الأقوال في ذلك لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق أ. د. السمهري ..
هود: 108، وهو دال على دوام النعيم واستمراره فكان قرينة على أن الاستثناء الذي قبله لا يراد به الإخراج، إنما يراد به إثبات كمال الاختيار واستدلوا أيضاً بقوله تعالى:{لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} النبأ: 23، تجعل اللبث في النار مدة محدودة، فدل على انتهاء العذاب، واستدلوا أيضاً بأن النار موجب غضبه، والجنة موجب رحمته، وقد روى البخاري في صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لما قضى الله الخلق كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي سبقت غضبي)(1)
وفي رواية (تغلب غضبي) قالوا فلو بقي الكافر في النار، ولم تفن النار لكان غضبه قد سبق رحمته، وفي هذا خلف لخبر الصادق صلى الله عليه وسلم عن ربه، وخلف خبر مستحيل.
قالوا وما ورد من النصوص الدالة على خلود الكفار فيها أبداً وعدم خروجهم منها فلا نزاع فيه، لكنه يعني البقاء في العذاب ما دامت النار باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد، وهناك فرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس قائم، وبين من ينهدم حبسه وينقض بناؤه، فيبطل حبسه وينتهي سجنه بانتقاض البناء، وقد يناقش هذا بأنه وإن صلح جواباً عن أدلة الخلود فلا يصلح جواباً عن النصوص الصريحة في أن عذابها مقيم، وأنه كان غراماً، وأن النار كلما هبت وأدها الله سعيراً، وأنهم لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف بل يزيدهم الله عذاباً، وأنهم لكما نضجت جلودهم بدلهم الله جلود غيرها ليذوقوا العذاب، اللهم إلا أن قال: إن الاستثناء بالمشيئة في الآيتين السابقتين مسلط على جميع النصوص التي دلت على دوام العذاب واستمراره، وعلى كل حال فالموضوع من شئون الله فليترك إلى الله سبحانه والله أعلم" (2).
أجمع أهل السنة والجماعة (3) ومن وافقهم (4) على القول ببقاء الجنة، ودوام نعيمها، وخلود أهلها، وخالف في ذلك الجهمية فقالوا بفنائها وأهلها.
(1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم برقم (7422) ..
(2)
مجموعة ملفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي (12 - 13).
(3)
ينظر: الشرح والإبانة (ص 208)، أصول السنة لابن زمنين (ص 139 - 140)، عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص 364)، مراتب الإجماع لابن حزم (ص 13)، الحجة في بيان المحجة (2/ 253)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 581)، حادي الأرواح (ص 323)، شرح الطحاوية (2/ 620).
(4)
ينظر: الفصل (4/ 83)، أصول الدين للبغدادي (ص 238)، أصول الدين للبزدوي (ص 165 - 166)، المسايرة (ص 247 - 249).
وأما النار فقد اختلف الناس في بقائها، ودوام عذابها، وخلود أهلها على ثمانية أقوال (1)، أهمها ثلاثة:
الأول: أن النار كالجنة باقية لا تفنى، وأن الله تعالى يخرج منها من يشاء، ويبقى فيها الكفار بقاءً أبدياً لا انقضاء له.
والثاني: أن النار تفنى، وأن الله تعالى يخرج منها من يشاء، ثم يبقيها ما يشاء، ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه.
والثالث: الإمساك عن ذلك كله، والوقوف عند قوله سبحانه:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} هود: 107.
والقول الصحيح -والله أعلم- أن النار كالجنة باقية لا تفنى، وهو قول جمهور أهل السنة والجماعة (2)،وحكاه بعضهم إجماعاً (3).
والأدلة متظافرة من الكتاب والسنة وقد ذكر الشيخ رحمه الله أدلة من الكتاب أما من السنة:
فقوله صلى الله عليه وسلم: (يدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، كل خالد فيما هو فيه)(4).
(1) ينظر: حادي الأرواح (ص 329 - 332)، شرح الطحاوية (2/ 624)، فتح الباري (11/ 421 - 422).
(2)
ينظر: أصول السنة لابن أبي زمنين (ص 139 - 140)، عقيدة السلف وأصحاب الحديث لإسماعيل الصابوني (ص 364)، الحجة في بيان المحجة للأصبهاني (2/ 263، 436)، شرح الطحاوية (2/ 260 - 261)، كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار للشوكاني (2/ 789)، لوامع الأنوار (2/ 230).
(3)
ينظر: مراتب الإجماع لابن حزم (ص 13)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 581)، رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار للصنعاني (ص 116).
(4)
أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب برقم (6544)(4/ 2049)، ومسلم، كتاب الحنة، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفة برقم (2850)(4/ 2189) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما به.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم -أو قال بخطاياهم- فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة
…
) (1).
والقولان الآخران لا تقوى أدلتهما على معارضة هذه الأدلة الصريحة، والجواب عنهما يطول المقام بتسطيره، وما ذكره الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله في كلامه السابق يغني عن إعادته.
(1) أخرجه، مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة برقم (185)(1/ 172) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه به.