الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التمهيد
بين الشيخ عبد الرزاق عفيفي سبب ضلال الفرق، فقال رحمه الله محذراً: " لا يغترَ إنسان بما آتاه الله من قوة في العقل وسعة في التفكير، وحصيلة في العلم، فيجعل عقله أصلاً، ونصوص الكتاب والسنة الثابتة فرعاً، فما وافق منهما عقله قبله واتخذه ديناً وما خالفه منهما لوى به لسانه وحرفه عن موقعه، وأوله على غير تأويله إن لم يسعه إنكاره
…
ثقة بعقله
…
واتهاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم
…
واتهاماً لثقات الأمة وعدولها، الذين نقلوا إلينا نصوص الشريعة ووصلت إلينا عن طريقهم قولاً وعملاً
…
فأي عقل من العقول يجعل أصلاً يحكم في نصوص الشريعة فترد أو تنزل على مقتضاه فهما وتأويلاً، أعقل الخوارج في الخروج على الولاة، وإشاعة الفوضى وإباحة الدماء، أم عقل الجهمية في تأويل نصوص الأسماء والصفات وتحريفها عن مواضعها وفي القول بالجبر، أم عقل المعتزلة ومن وافقهم في تأويل نصوص أسماء الله وصفاته ونصوص القضاء والقدر وإنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، أم عقل الغلاة في إثبات الأسماء والصفات والغلاة في سلب المكلفين المشيئة والقدرة على الأعمال، أم عقل من قالوا بوحدة الوجود
…
إلخ" (1).
لا شك أن سبب ضلال الفرق على وجه العموم هو عدولهم عن الصراط المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه. قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الأنعام: 153.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّاً وقال: (هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن يساره وقال: هذه سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه)، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
…
} الأنعام: 153 (2).
(1) مجموعة ملفات الشيخ (ص 40 - 41).وينظر: مجموعة ملفات الشيخ (88 - 89) و (127 - 128)، وشبهات حول السنة (58) وما بعدها.
(2)
أحرجه النسائي في كتاب التفسير باب قوله تعالى (وأن هذا صراطي مستقيما) برقم (11110)، والحاكم في كتاب التفسير باب أنا وأصحابي حيز والناس حيز لا هجرة بعد الفتح برقم (3241)(2/ 348) وقال حديث صحيح الإسناد، وصححه الألباني في تخريجه لأحاديث الطحاوية (ص 587).
وعموماً فإن الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم تشعبت بهم الطرق، فهناك أهل الوهم (1) والتخييل (2)(الفلاسفة)، وهناك أهل التحريف والتأويل كالمعتزلة وغيرهم من علماء الكلام، وهناك أهل التجهيل (3)
والتضليل (4) الذين ادعوا أن النصوص الشرعية من قرآن وسنة يراد بها خلاف مدلولها الظاهر وأن المراد الخفي لا يعلمه غيرهم وإلى هذا الصنف تنتمي الباطنية، وما كل ذلك إلا أنهم أقحموا العقل فيما ليس له.
ولقد اعتبر الإسلام العقل ولم يلغه، فمن مظاهر اعتباره للعقل وعدم إلغائه له أن أطلق له العنان في التفكير فيما يدركه ويشاهده، ومنعه من التفكير والتخبط فيما لا يدركه ولا يقع تحت حسه من المغيبات التي لا يمكن أن يصل في تفكيره فيها إلى نتيجة (5).
وقد جاء عن السلف رحمهم الله قولهم:
" العقل نوعان: عقل أعين بالتوفيق، وعقل كيد بالخذلان.
فالعقل الذي أعين بالتوفيق: يدعو صاحبه إلى موافقة أمر الأمر المفترض الطاعة، والانقياد لحكمه، والتسليم لما جاء عنه
…
والعقل الذي كيد: يطلب بتعمقه الوصول إلى علم ما
(1) الوَهْمُ: مِنْ خَطَرات القلْبِ، والجمع: أوهامٌ، كما في المحكم، أو هو:(مَرْجوحُ طَرَفي المُتَرَدَّدِ فيه)، وقال الحكماء: هو قوة جسمانية للإنسان محلُّها آخر التَّجويفِ الأوسط من الدِّماغ، من شأنها إدراكُ المعاني الجُزئيَّة المتعلِّقَة بالمحسوسات، كشجاعة زيدٍ، وهذه القُوةُ هي التي تَحْكُم في الشَّاة بأن الذِّئب مهروبٌ منه، وأن الولد معطوفٌ عليه، وهذه القوَّة حاكمةٌ على القوى الجُسمانية كلها، مستخدمةٌ، وهو أضعف من الظن.
ينظر: التعريفات للجرجاني (ص 329)، تاج العروس (34/ 62)، المغرب في ترتيب المعرب للمطرزي (2/ 374)، كتاب الكليات لأيوب الكفومي (ص 943).
(2)
التخييل: تَصوِيرُ خَيالِ الشيء في النَّفْس، ومنه قوله تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)} طه: 66.
ينظر: لسان العرب (11/ 231)، مختار الصحاح (ص 82)، تاج العروس (28/ 450).
(3)
التجهيل: هو النسبة إلى الجهل والمجهلة بوزن المرحلة الأمر الذي يحمل على الجهل ومنه قولهم الولد مجهلة، والجهل ضد العلم.
ينظر: لسان العرب (11/ 129)، مختار الصحاح (ص 49).
(4)
التضليل: تصيير الإنسان إلى الضلال، والتّضلال كالتّضليل، ورجلٌ ضِلِّيل: كثير الضّلال ومضلَّلٌ لا يوفَّق لخير.
ينظر: المخصص لأبي حسن علي بن إسماعيل النحوي (4/ 50)، لسان العرب (11/ 349)، كتاب الكليات (ص 44).
(5)
ينظر: لمكانة العقل في الإسلام في كتاب موقف المتكلمين للغصن (1/ 262 - 273).
استأثر الله بعلمه، وحجب أسرار الخلق عن فهمه، حكمة منه بالغة؛ ليعرفوا عجزهم عن درك غيبه، ويسلموا لأمره طائعين
…
" (1).
فللعقول حد، إن وقفت عنده نجت وسلمت، وإن تعدته ضلت وعطبت.
يقول السفاريني رحمه الله: " إن الله تعالى خلق العقول وأعطاها قوة التفكير، وجعل لها حداً تقف عنده من حيث ما هي مفكرة، لا من حيث ما هي قابلة للوهب الإلهي، فإذا استعملت العقول أفكارها فيما هو في طورها وحدها، ووفت النظر حقه أصابت بإذن الله تعالى، وإذا سلطت الأفكار على ما هو خارج عن طورها، ووراء حدها الذي حده الله لها، ركبت متن عمياء، وخبطت خبط عشواء
…
" (2).
وإذا جعلنا العقل هو الأصل فأي عقل من العقول يجعل أصلاً يحكم في نصوص الشريعة فترد أو تنزل على مقتضاه فهما وتأويلاً.
ولقد أحسن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله: " ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين لهذا الباب في أمر مريج، فإن من أنكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يحيل أن لله علماً وقدرة وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل، ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل.
ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل بل منهم من يزعم أن العقل جوز وأوجب ما يدّعي الآخر أن العقل أحاله
فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة، فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد لجدل هؤلاء.
وكل من هؤلاء مخصوم بما خصم به الآخر وهو من وجوه:
أحدها: بيان أن العقل لا يحيل ذلك.
(1) نقله قوام السنة عن ابن السمعاني في الحجة (ص 187).
(2)
لوامع الأنوار البهية (1/ 105).
والثاني: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل.
والثالث: أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول جاء بها بالاضطرار كما أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويل القرامطة والباطنية في الحج والصلاة والصوم وسائر ما جاءت به النبوات.
الرابع: أن يبين أن العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص وإن كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن درك التفصيل وإنما يعلمه مجملا إلى غير ذلك من الوجوه على أن الوجوه الأساطين من هؤلاء الفحول معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية.
وإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه ومن المعلوم للمؤمنين أن الله تعالى بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا" (1).
ومن البدهي لدى كل مسلم أن الإسلام - عقيدة وسلوكا - هو الميزان الصحيح الحكم، والحكم العدل في تقويم الأديان والمذاهب، والحكم على مدى استقامة الأمم والشعوب أو انحرافها.
وعلى هذا فإن المتأمل لحال البشرية الدينية اليوم يرى أن الناس على أربعة أصناف:
الصنف الأول: مسلم متمسك بدينه معتصم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يؤمن بالله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على هدى من دين الله وبصيرة. وهؤلاء رغم قلتهم منتشرون - بحمد لله - في سائر المعمورة يربطهم رباط العقيدة الصحيح وأخوة الإيمان، وهم الطائفة التي عناها رسول صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)(2).والمقصود بأمر الله هنا: قيام الساعة كما هو صريح في أحاديث أخرى: (حتى تقوم الساعة)(3).
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (5/ 28 - 30).
(2)
أحرجه مسلم في صحيحة في كتاب الإمارة باب قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، برقم (1920).
(3)
أحرجه ابن ماجة في كتاب المقدمة باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (6)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (270)، وفي صحيح وضعيف سنن ابن ماجة برقم (6).
ومن كان من هذه الطائفة؛ سَعُد في الدنيا والآخرة بنعمة الإسلام والإيمان {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الكهف: 28.
الصنف الثاني: المنتمون للإسلام وهم على شيء من الانحراف والضلال أو على الكفر أو الجهل، وهم مع الأسف كثير ممن يدعي الإسلام من الصوفية، والرافضة، والباطنية، والنصيرية، وأصحاب المبادئ والاتجاهات الهدامة: كالاشتراكية، والبعثية، والقومية، والعلمانية، وسواهم من ذوي الانحراف العقدي والعملي.
وهؤلاء هم الذين استثنى منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الطائفة المنصورة الظاهرة على الحق رغم قلتها.
وهؤلاء دعاة شر على أبواب جهنم، ويملكون من الأساليب والوسائل الجذابة والخادعة ما يشكل خطرا على شباب المسلمين الذين لم يتسلحوا بالعقيدة الإسلامية الصافية التي تحصنهم.
الصنف الثالث: أتباع الديانات الضالة: وهؤلاء: إما كتابيون، وهم الذين ينتمون إلى الأديان المنزلة من الله في أصلها ولكن دخلها التحريف والشرك ثم نسخت، وهم اليهود والنصارى.
وإما وثنيون يتبعون دينا مبتدعا يقوم في أصله على الشرك والوثنية وتقديس المخلوقات، كالبراهمة والبوذيين والكنفوشسيين والمجوس وأكثر الفلاسفة، وهذا الصنف كافر صريح الكفر، وعلى المسلم أن لا يرتبط معهم بأخوة أو مودة أو ولاء؛ لأنهم محادون لله ورسوله.
الصنف الرابع: الملاحدة: وهم الذين لا يدينون بدين، أو يتبعون مذاهب تجحد وجود الخالق سبحانه وتعالى، وهم بعض الفلاسفة والدهريون والشيوعيون وبعض العلمانيين ونحوهم، وهم كفار ملاحدة (1).
(1) ينظر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة للدكتورين العقل والقفاري (ص 11 - 13).