الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
معنى الإيمان بالقضاء والقدر وما يتضمنه
.
قال الشيخ عبد الرزاق رحمه الله: " عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علماً، وأنه كتب في اللوح المحفوظ كل ما سيكون وأن كل ما علمه وكتبه فهو كائن لا محالة، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} الأنفال: 75،
…
إلى غير ذلك من الآيات
…
وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبرائيل عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)(1)
…
" (2).
وقال الشيخ رحمه الله: " ثبت أن الله تعالى وسع كل شيء رحمة وعلماً، وكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، وعمت مشيئته وقدرته كل شيء، بيده الأمر كله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لما قضى وهو على كل شيء قدير. وقد دل على ذلك وما في معناه نصوص الكتاب والسنة، وهي كثيرة معروفة، عند أهل العلم، ومن طلبها من القرآن ودواوين السنة وجدها، من ذلك قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)} العنكبوت: 62، وقوله:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} القمر: 49، وقوله:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} السجدة: 13، ومما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما حث على الذكر به عقب الصلاة من قوله:(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)(3)، وكذا ما جاء في حديث عمر رضي الله عنه من سؤال جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الإيمان: أن
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان الإسلام
…
برقم (8).
(2)
فتاوى اللجنة (3/ 352 - 354).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب الذكر بعد الصلاة برقم (844)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم (593).
تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) (1)، فهذه النصوص وما في معناها تدل على كمال علمه تعالى بما كان وما هو كائن على تقديره كل شؤون خلقه، وعلى عموم مشيئته وقدرته، ما شاءه سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن" (2).
الإيمان بالقضاء والقدر هو الرّكن السادس من أركان الإيمان التي لا يصح إيمان العبد إلا بها، وهو يتضمّن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن الله تعالى علم بكلّ شيء جملة وتفصيلاً، أزلاً وأبداً، سواء كان ذلك مِمّا يتعلّق بأفعاله أو بأفعال عباده.
الثاني: الإيمان بأنّ الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ.
وفي هذين الأمرين يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} الحج: 70.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السّماوات والأرض بخمسين ألف سنة)(3).
الثالث: الإيمان بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى، سواء كانت مما يتعلّق بفعله أم مما يتعلّق بفعل المخلوقين.
قال الله تعالى فيما يتعلّق بفعله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} القصص: 68، وقال {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} إبراهيم: 27، وقال:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} آل عمران: 6.
وقال تعالى فيما يتعلق بفعل المخلوقين: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} النساء: 90، وقال:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)} الأنعام: 137.
الرابع: الإيمان بأنّ جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها، وصفاتها، وحركتها.
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان الإسلام
…
برقم (8).
(2)
فتاوى اللجنة (3/ 518 - 519).
(3)
أخرجه مسلم في كتاب القدر باب حجاج آدم موسى عليهما السلام برقم (2653).
قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} الزمر: 62، وقال:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} الفرقان: 2.
وللإيمان بالقدر أهمية كبرى بين أركان الإيمان، يدركها كل من له إلمام ولو يسير بقضايا العقيدة الإسلامية وأركان الإيمان؛ ولذلك ورد التنصيص في السنة النبوية على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره.
"وترجع أهمية هذا الركن ومنزلته بين بقية أركان الإيمان إلى عدة أمور:
الأول: ارتباطه مباشرة بالإيمان بالله تعالى، وكونه مبنياً على المعرفة الصحيحة بذاته تعالى وأسمائه الحسنى، وصفاته الكاملة والواجبة له تعالى، وقد جاء في صفاته سبحانه صفة العلم، والإرادة، والقدرة، والخلق، ومعلوم أن القدر إنما يقوم على هذه الأسس، "وعلى هذا الأساس قامت عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر، فكان الإيمان بهما متمماً للإيمان بالله تعالى، وبصفاته، وعنصراً من حقيقته المشرقة"(1).
ولا شك أن الإقرار بتوحيد الله وربوبيته لا يتم إلا بالإيمان بصفاته تعالى، فمن زعم أن هناك خالقاً غير الله تعالى فقد أشرك، والله تعالى خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد (2).
ولهذا السبب -والله أعلم- لم يذكر ركن الإيمان بالقدر في كتاب الله تعالى مع بقية أركان الإيمان كما ورد في السنة، لأن الإيمان بالقدر هو إيمان بربوبيته وأسمائه وصفاته، ومراتب القدر الأربع هي صفات الله تعالى.
الثاني: حين ننظر إلى هذا الكون، ونشأته، وخلق الكائنات فيه، ومنها هذا الإنسان، نجد أن كل ذلك مرتبط بالإيمان بالقدر، فـ (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) (3)، والإنسان يوجد على هذه الأرض، وينشأ تلك النشأة الخاصة، ويعيش ما شاء الله في حياة متغيرة، فيها الصحة
(1) مع الله في صفاته وأسمائه الحسنى لحسن أيوب (ص 116).
(2)
ينظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص 304) تحقيق الألباني.
(3)
أخرجه لإمام أحمد في مسنده برقم (22196)، والترمذي: كتاب القدر باب ما جاء في الرضا بالقضاء برقم (2155)، (4/ 457)، من حديث عبادة بن الصامت، وأبو داود في كتاب السنة، باب القدر برقم (4700)، صححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2155).
والسقم، والغنى والفقر، والقوة والضعف، والنعم والمصائب، والفرح والحزن
…
وينظر الإنسان من حوله فيرى تفرق هذه الصفات على الناس، وعلى الجماعات والدول
…
، ينظر إلى كل ذلك فلا يجد المخرج إلا في العقيدة الصحيحة، وعلى رأسها الإيمان بالقدر.
الثالث: والإيمان بالقدر هو المحك الحقيقي لمدى الإيمان بالله تعالى على الوجه الصحيح، وهو الاختيار القوي لمدى معرفة الإنسان بربه تعالى، وما يترتب على هذه المعرفة من يقين صادق بالله، وبما يجب له من صفات الجلال والكمال، وذلك لأن القدر فيه من التساؤلات والاستفهامات الكثيرة لمن أطلق لعقله المحدود العنان فيها.
وقد كثر الاختلاف حول القدر، وتوسع الناس في الجدل والتأويل لآيات القرآن الواردة بذكره، بل وأصبح أعداء الإسلام في كل زمن يثيرون البلبلة في عقيدة المسلمين عن طريق الكلام في القدر، ودس الشبهات حوله، ومن ثم أصبح لا يثبت على الإيمان الصحيح واليقين القاطع إلا من عرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، مسلماً الأمر لله، مطمئن النفس، واثقاً بربه تعالى، فلا تجد الشكوك والشبهات إلى نفسه سبيلاً، وهذا ولا شك أكبر دليل على أهمية الإيمان به بين بقية الأركان" (1).
(1) القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذهب الناس فيه (83 - 85).