الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القرائن والأمارات معتبرة في الفقه والقضاء. وقوله تعالى: بِدَمٍ كَذِبٍ أي بدم ذي كذب، أو مكذوب عليه.
فقال يعقوب لهم: بل زيّنت لكم أنفسكم السّيئة أمرا منكرا غير ما تصفون وتذكرون، فسأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتّفقتم عليه، وأستعين بالله على وصفكم، حتى يأتي الفرج ويزول الكرب. وهذا تسليم لأمر الله تعالى وتوكل عليه.
والصبر الجميل: هو الذي لا شكوى معه. والصبر مفتاح الفرج، وطريق التغلب على المصاعب والمشاق والأزمات.
نجاة يوسف من الهلاك في البئر
يخطئ البشر كثيرا حين يظنون أن تدابيرهم وخططهم لا تصطدم بشيء أقوى منهم، وبتدبير أحكم وأنفذ، فإن قدرة الله وإرادته وتدابيره تحيط بكل شيء، ولا يتحقق أمر في الكون إلا بمراد الله، فإرادته هي النافذة، ومشيئته هي الغالبة، وتدبيره هو المحكم لأنه القابض المهيمن على مقاليد السماوات والأرض. وهكذا خطّط إخوة يوسف للتخلص نهائيا من أخيهم، فباؤوا بالخيبة والفشل لأن الله تعالى هو الإله القادر المنفّذ لما يريد، قال الله تعالى واصفا كيفية نجاة يوسف عليه السلام من الموت في البئر المظلمة العميقة:
[سورة يوسف (12) : الآيات 19 الى 22]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
«1» «2» «3» «4» «5» »
(1) رفقة مسافرون من مدين لمصر.
(2)
الوارد: هو الذي يأتي الماء ليسقي منه لجماعته، وهو إما واحد أو جماعة.
(3)
أرسلها في البئر ليملأها ماء.
(4)
أخفوه عن الرفقة، وجعلوه بضاعة للتجارة أي متاعا.
(5)
باعوه.
(6)
منقوص.
«1» «2» «3» [يوسف: 12/ 19- 22] .
قدّر الله تعالى ألا تطول غربة يوسف ومأساته ووحشته في البئر، فمرّت سيارة، أي قوم مسافرون معا من مدين إلى مصر، وأشدّ ما يحتاج إليه المسافرون عبر الصحراء والمسافات البعيدة هو الماء، فأرسلوا من يستقي لهم الماء من بئر وجدوها في الطريق في الأردن، على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب (أي حوالي 15 كم) ، فألقى دلوه في البئر ليملأها، فتدلى بها يوسف وتمسّك بالحبل، وصعد مع حبل الدلو، فقال الوارد المستقي المدلي مبشّرا نفسه وقومه: يا بشارتنا العظمى، يا بشراي، هذا غلام، وكان يوسف يومئذ ابن سبع سنين، فحملوه مع قافلتهم، وأخفوا أمره عن الرفاق المسافرين، جاعليه متاعا للتجارة، والله عليم بأفعالهم، لم يخف عليه إسرارهم في أنفسهم أنهم يتّخذونه بضاعة لأنفسهم. وفي ذلك تنبيه على إرادة الله تبارك وتعالى ليوسف، وسوق الأقدار بحسب بناء حاله، كما
قال النّبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حلية الأولياء 8/ 339: «يقدّر المقدرون، والقضاء يضحك» .
وفي ذلك إيناس أيضا للنّبي صلى الله عليه وسلم عما يجري عليه من جهة قريش، فإن العاقبة التي هي للمتقين هي المراعاة والمنتظرة.
وباعوا الغلام الجميل الحدث في مصر بثمن قليل ناقص عن ثمن المثل من الدراهم المعدودة عدّا، لا وزنا، وكانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية (أربعين درهما) فما فوقها. وكانوا في هذا البيع من الزاهدين، أي الراغبين عنه الذين لا يعرفون قدره،
(1) لا يغلبه شيء. [.....]
(2)
منتهى القوة والجسم وهو سنّ الأربعين.
(3)
نبوة وحكمة: وهي الفهم ومعرفة الأسرار.
ويودّون التّخلص منه بأي حال، دون أن يعلموا منزلته عند الله تعالى، وقد اشتراه عزيز مصر رئيس الشرطة، واسمه (قطفير) كما قال ابن عباس.
وقال العزيز الذي كان واليا على خزائن الأرض، والذي اشتراه من مصر، لامرأته زليخة: أكرمي مقامه عندنا، يجعل مقامه حسنا مكرّما، أي أحسني تعهده، فلا يكون عبدا، عسى أن ينفعنا في ثروتنا ومصالحنا، أو نتبنّاه ولدا، لأنه كان عقيما، لما تفرّس به من الرشد وملامح النجابة والذكاء.
وإرادة الله ورعايته تحوط يوسف عليه السلام، فكما نجاه الله من القتل والبئر، وعطّف عليه قلب العزيز، مكّن له في أرض مصر، وجعل له مكانة رفيعة فيها، حتى تولى الحكم فيها إداريا وماليا، وعلّمه أيضا كيفية تأويل الأحاديث، أي الرؤيا في النوم، والله سبحانه هو الغلّاب القهّار، لا يعجزه شيء فلا يمنع عما يشاء، ولا ينازع فيما يريد.
ولما بلغ يوسف أشدّه، أي استكمل القوة والرجولة وتناهت بنيته، وكملت قواه الجسدية والعقلية، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين، آتاه الله حكما أي حكمة وعلما، وسلطانا في الدنيا، وحكما بين الناس بالحق، ومثل ذلك الجزاء الحسن، يجزي الله الذين يحسنون لأنفسهم أعمالهم، وهذا دليل على أن يوسف عليه السلام كان محسنا في عمله، عاملا بطاعة الله تعالى، فإحسان الجزاء له، جزاء على إحسانه في عمله، وتقواه في حال شبابه، فإن للإحسان والاستقامة تأثيرا في صفاء النفوس والعقول، كما أن للإساءة تأثيرا واضحا في تعكير النفوس وسوء فهم الأمور.
وما أجمل هذه الجملة وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ففيها وعد للنّبي صلى الله عليه وسلم، فلا يهتم بفعل الكفرة به وتوهم عليه، وفيها البشارة لكل محسن بعاقبة طيبة حسنة، فالله تعالى يصنع للمحسنين أجمل صنع، ويتوّجهم بفضله وكرمه، ويفيض عليهم من خيراته ونعمه وإحسانه.