الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك اليوم بين يدي الأصنام تبركا بها، ليأكلوها بعد عودتهم من العيد، فانقضّ عليهم إبراهيم ضربا بذلك القدوم، وهشّمها، حتى أفسد أشكالها كلها، حاشا الكبير، فإنه تركه بحاله، وعلّق القدوم في يده، وخرج عنها، لعل هؤلاء الوثنيين يرجعون إلى الكبير الذي يلجأ إليه عادة، وقد علّق القدوم في يده، فيتبين لهم أنه عاجز لا يستطيع فعل شيء، وأنهم بعبادة الأصنام مغرورن جاهلون.
وقوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ ونحوه من الكلام الذي يخاطب به العقلاء: معاملة للأصنام بحال من يعقل، من حيث كانت تعبد، وتنزل منزلة من يعقل. وضمير لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ الأظهر أنه عائد على إبراهيم عليه السلام، أي فعل هذا كله توخيا منه أن يعقب ذلك منهم رجعة إليه وإلى شرعه، ويحتمل كما تقدم عودة إلى الكسر المتروك، أو إلى الصنم الأكبر.
الحوار الحاد بين إبراهيم وقومه بعد تكسير الأصنام
من الطبيعي أن يغضب قوم إبراهيم عبدة الأصنام على ما حدث من كارثة تكسير الأصنام التي يعتقدون أنها الآلهة، ويعبدونها من دون الله، فجاءوا إلى إبراهيم الخليل عليه السلام حاقدين غائظين، ليسألوه عن حقيقة الأمر، ولإنكار ما حدث، والانتقام مما وقع، وهذا موقف في غاية الحرج والضيق من قوم عتاة، لكنهم سذّج بسطاء، وجهلة حمقى. تصوّر لنا هذه الآيات الكريمة هذا المشهد في جو من النقاش المتأزم، والحوار الساخن، قال الله تعالى:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 59 الى 65]
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)
«1» [الأنبياء: 21/ 59- 65] .
معنى الآيات: لقد انصرف الناس: عبدة الأوثان- النمروذ وأتباعه، من عيدهم، فرأوا ما حدث بآلهتهم، فأكبروا ذلك، وقالوا على سبيل البحث والإنكار والتهديد: من الذي كسّر هذه الآلهة، إن فاعل ذلك لمن الظالمين أنفسهم، المتعرض للإهانة والنكال والعقاب.
قال بعضهم ممن سمع تهديد إبراهيم: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ: سمعنا شابا يعيبهم، ويذكرهم بسوء، يقال له إبراهيم، فهو إذن الذي فعل بهم هذا. وظاهر الآية يدل على أن هؤلاء القائلين جماعة، لا واحد.
قال النمروذ وحاشيته: فأتوا به على مرأى ومسمع من الناس في الملأ الأكبر، حتى يروه ويشهدوا عليه، أي على فعله أو قوله، وكان هذا الحضور في المحفل الجمهوري موافقا لرغبة إبراهيم في تبيان جهالة القوم وسوء إدراكهم.
فلما أتوا به، قالوا له: أأنت الذي كسّرت هذه الأصنام؟ فأجابهم: «بل فعله كبيرهم هذا» أي بل الذي فعل هذا هو الصنم الأكبر الذي ما زال باقيا لم يكسّر، فاسألوا هذه الأصنام عمن كسّرها، إن كانوا آلهة ينطقون. وفي هذا تنبيه لهم على عقم عبادة الأصنام، ويرجعوا إلى أنفسهم بالملامة، ونسبة التقصير إليها، فقال بعضهم لبعض: إنكم أنتم الظالمون في ترككم لها مهملة، لا حافظ عندها.
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أي أطرقوا في الأرض للتأمل والتفكير، والإغراق في الحيرة، فقالوا: فما بالك تدعو إلى ذلك؟ إنك تعلم ونحن نعلم أن هؤلاء لا
(1) رجعوا إلى الباطل والمعاندة.
ينطقون، فكيف تطلب منا سؤالهم إن كانوا ينطقون؟! أي إنهم احتجوا على إبراهيم بما هو الحجة لإبراهيم عليهم، بسبب الحيرة التي أدركتهم.
وحينئذ وجد إبراهيم عند هذه المقالة موضع الحجة، فوبخهم على عبادتهم تماثيل، لا تنفع بذاتها ولا تضر.
ولقد احتج إبراهيم عليه السلام على قومه بحجتين عقليتين مقبولتين وهما:
الأولى: قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فلو كانت الأصنام تعقل، أو تتمكن من حماية نفسها وغيرها، لكان شأن الكبير حماية الأتباع والصغار.
الثاني: قوله فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ليقولوا على الفور: إنهم لا ينطقون، ولا ينفعون ولا يضرون، فيقول لهم: فلم تعبدونهم إذن؟ فتقوم الحجة عليهم.
لقد حقق إبراهيم عليه السلام مأربه بالاعتذار بقوله: «إني سقيم» وهذه في الظاهر كذبة، لكنها من أجل المصلحة، وهي كذبة في ذات الله تؤدي إلى خزي قوم مشركين وثنيين، والحديث الصحيح يقتضي ذلك، وهو
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، قوله: «إني سقيم» وقوله: «بل فعله كبيرهم هذا» وقوله للمليك:
«هي أختي» «1» » .
أي قوله للملك الذي أراد زوجته، فحماها الله منه، بقول إبراهيم:«هي أختي» ، أي إنها أخت له في الإسلام والإنسانية، والحقيقة: هذه الحالات هي كذبات في الظاهر، لكنها في الحقيقة والواقع لتحقيق مصلحة كبري تتعلق بالحفاظ على الدين أو النفس أو العرض.
(1) رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه.