الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلما جاءت فرعون وقومه الآيات التّسع بيّنة واضحة ظاهرة، دالّة على صدق موسى وأخيه هارون، أنكروها، وقالوا: هذا سحر واضح ظاهر.
وأنكروا الآيات وكذّبوا بها في الظاهر، وتيقّنوا في الحقيقة والباطن في أنفسهم أنها حقّ من عند الله، ظلما من أنفسهم واستكبارا عن اتّباع الحقّ، فانظر أيها الرسول كيف كان عاقبة أمر فرعون وقومه في إهلاك الله إياهم وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة. وفي هذا تحذير شديد لمكذّبي الرّسل الذين أرسلهم الله لهداية البشر، فليتّعظ المكذّبون بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه سيصيبهم مثل ما أصاب من قبلهم بالأولى.
أفضال الله تعالى على داود وسليمان عليهما السلام
تتعدّد أغراض القصة المحكيّة عن الأنبياء السابقين مع أقوامهم، والغالب منها التحذير والإنذار، حتى لا يتعرّض معارضو دعوة النّبي صلى الله عليه وسلم للعقاب المشابه لمن تقدّمهم، وقد يكون الهدف من القصة تعداد النّعم التي أنعم الله بها على بعض الأنبياء، فشكروها حقّ الشكر، وأدّوا حقّ الله فيها، مثل بيان نعم الله على داود وسليمان عليهما السلام، وهذا ما أوردته الآيات الآتية:
[سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
«1» «2» «3» «4»
(1) فهم أغراضه من صوته.
(2)
يردّ أولهم إلى آخرهم ويكفّون.
(3)
لا يكسرنكم.
(4)
ألهمني.
[النّمل: 27/ 15- 19] .
المعنى: تالله لقد أعطينا كلّا من داود وسليمان علما نافعا، هو علم الشرائع والأحكام وفصل القضاء بين الناس، وعلّمنا داود صنعة الدروع، وقال كلّ منهما:
الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباد الله المؤمنين الصالحين بهذه العلوم والمعارف المفيدة في الدنيا والآخرة.
وخلف سليمان أباه داود بعد موته في ميراث النّبوة والعلم والملك، أي صار إليه ذلك بعد موت أبيه، ويسمى ميراثا تجوّزا. أما ميراث المال: فلم يقع، لأن الأنبياء لا تورث أموالهم،
قال النّبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» .
وفي رواية أحمد عن أبي هريرة: «إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركت بعد مؤنة عاملي، ونفقة نسائي، صدقة» .
وقال سليمان متحدّثا بنعمة الله عليه: يا أيها الناس علّمنا الله منطق الطير والحيوان إذا صوّت، وأعطينا خيرا كثيرا من كل شيء في الدين والدنيا، من ملك وثروة، أي أعطينا ما يصلح لنا ونتمنّاه، ولا يراد به العموم، إن هذا المؤتى من الخيرات والنّعم من النّبوة والملك والحكم لهو الفضل الإلهي الظاهر البيّن الذي لا يخفى على أحد، وهو فضل الله علينا، فإن فهم المعاني من أصوات الطير، التي في نفوسها أمر يحتاج إلى الشكر، وهذا نحو ما كان عليه نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم يسمع أصوات الحجارة بالسّلام. وسمع سليمان أن البلبل قال:«أكلت نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء» .
ومن نعم الله على سليمان: أنه جمع الله له جنوده من الجنّ والإنس والطير، فكان ملكه عظيما ملأ الأرض، وانقادت له المعمورة كلها، وكان كرسيّه يحمله
أجناده من الجنّ والإنس، وكانت الطير تظلّله من الشمس، ويبعثها في الأمور، وكان هؤلاء الجنود يجمعون بترتيب ونظام، بأن يوقف أولهم ليلحق بهم آخرهم، ويردّ أولهم على آخرهم، لئلا يتقدم أحد عن منزلته ومرتبته، حتى لا يتخلّف أحد منهم، وهذا معنى قوله تعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ من الوزع، أي الكفّ والمنع، والمعنى: يردّ أولهم على آخرهم ويكفّون.
ومن النّعم أيضا على سليمان: فهم كلام النّمل، فبينا كان سليمان وجنوده مشاة على الأرض، أتوا على وادي النّمل إما بالشّام أو غيرها من البلاد، ونادت نملة هي ملكة النّمل: يا أيها النّمل، ادخلوا بيوتكم، حتى لا يكسرنكم سليمان وجنوده، من غير أن يشعروا بذلك.
فتبسّم سليمان ضاحكا من قولها، وتعجّبا من تحذيرها، وقال داعيا ربّه في أن يعينه الله تعالى ويفرغه لشكر النّعمة، وهذا معنى إيزاع الشكر، يا ربّ ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والديّ، وأن أعمل عملا صالحا ترضاه وتحبّه، واجعلني بعد الوفاة في الجنة، في زمرة الصالحين، من الأنبياء والأولياء الصلحاء.
وهذا دليل على أن نعمة العلم وحدها تستوجب الشكر، وأن برّ الوالدين والدّعاء لهما بعد موتهما مطلوب مرغوب فيه.
هذا سليمان الملك العظيم يطلب من ربّه التّفرّغ للشكر، كما يطلب من ربّه أن يوفّقه للعمل الصالح الذي يرضيه، وأن يتغمّده برحمته وفضله في الجنة بإذن الله، التي هي دار المتّقين، ودار السّلام والأمان والسعادة المطلقة. فهو لم يغترّ بعمله ولا بسلطانه، بل طلب الزيادة والمعونة والفضل حتى يدخل في عداد الصالحين. وهذا دليل على تواضع العظماء والعلماء، وأن كل إنسان بأمسّ الحاجة إلى رحمة الله في الدنيا والآخرة، وأن فضل الله دائم لا ينقطع، يغمر الجميع ويحتاج إليه الجميع.