الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عندي ومن جلسائي، ويلاحظ أنهم ابتدؤوا بطلب الجزاء وهو إما المال وإما الجاه، فبذل فرعون لهم كلا الأمرين.
ولكن تدبير الله فوق كل تدبير، وكان الفوز لموسى عليه السلام في صميم الحال العامة التي توقع فيها فرعون وقومه إنزال الهزيمة الساحقة بموسى، وإنهاء شأن دعاويه ومحاولاته حمل القوم على رسالته، ولكن قد يؤتى الحذر من مأمنه، وهكذا حدث.
-
4- المبارزة بين موسى عليه السلام والسّحرة
كانت الحسابات المتوقعة في منطق القوة التي لا تعتمد على شيء من الإيمان أن موسى عليه السلام سينهزم، وأن السّحرة سيتغلّبون، ولكن في منطق الإيمان بالله ربّ العالمين تتغيّر كل الحسابات، وتنقلب الموازين، وكان لترتيب المبارزة أثر كبير في قلب الأوضاع، حيث أدّت مهارة موسى عليه السلام وتوفيقه من ربّه، بتقديم فعل السّحرة أولا، وتأخّر فعل موسى، إلى نجاح كبير، وحدث ما لم يتوقعه أحد، وهو إيمان السّحرة بربّ العالمين، ربّ موسى وهارون. وفي ذلك النجاح الباهر حدث كبير، يهزّ مشاعر النفوس المؤمنة، ويدفع أهل الإيمان إلى شدّة الثبات على العقيدة وزيادة الإيمان، كما يخدش كبرياء المتغطرسين الذين يفتقدون معيار الإيمان، ولا يدركون معناه. قال الله تعالى مبيّنا هذا المشهد العجيب:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 43 الى 51]
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
«1»
(1) بقوته.
«1» «2» «3» [الشّعراء: 26/ 43- 51] .
ابتدأ الحوار بين موسى عليه السلام والسّحرة عن أيهما البادئ بالفعل، فقدّمهم موسى، قائلا لهم: ألقوا ما تريدون إلقاءه من العصي والحبال، ثقة وإيمانا منه بأن الله غالبة ومؤيّده، ويجعل ما يلقونه طعمة لعصاه الثعبان المبين. فألقوا ما معهم من الحبال المطلية بالزّئبق والعصي المحشوة به، وقالوا: بعزّة فرعون- أي بقوته وجبروته- إنا لنحن الغالبون.
ولما حميت الشمس، تحركت العصي والحبال، وخيّل إلى موسى أنها تسعى، وسحروا أعين الناس، واسترهبوهم، وجاؤوا بسحر عظيم.
ثم ألقى موسى عصاه، فانقلبت ثعبانا عظيما، فابتلعت كل ما وجدته في حلبة المبارزة من عصي وحبال. وتَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ معناه: تبتلع ما يكذبون معه وبسببه.
فخرّ السّحرة ساجدين لله تعالى بلا مبالاة ولا شعور، لأنهم أدركوا أن ما فعله موسى فوق قدرة البشر، وأنه من فعل الله تعالى ربّ موسى وهارون، وأما فعلهم:
فهو مجرد تمويه وتزييف وتخييل. ونائب فاعل فَأُلْقِيَ هو الله عز وجل. ورأوا أن الغنيمة هي الإيمان والتّمسّك بأمر الله عز وجل، فسجدوا كلهم لله تعالى مقرّين بوحدانيته وقدرته، ووصلوا إلى إيمانهم بسبب موسى وهارون عليهما السلام، وقالوا: صدّقنا واعترفنا بالله ربّ العالمين، وأكّدوا ذلك بأنه هو ربّ موسى
(1) تبتلع بسرعة.
(2)
يكذبون ويغيرونه بالتمويه.
(3)
لا ضرر علينا فيما نتعرّض له.
وهارون، غير آبهين بعزة فرعون وجبروته. وهذا دليل على إسقاط ألوهية فرعون وربوبيته.
ولما رأى فرعون والملأ إيمان السّحرة، وقامت الحجة بإيمان أهل علمهم ومظنّة نصرتهم، وقع فرعون في الورطة العظمى، فوقف موبّخا لهم على إيمانهم بموسى قبل إذنه، وقال: أتؤمنون بموسى قبل استئذاني، وكيف تعصون أمري، وأنا الحاكم المطاع؟
وأضاف فرعون قائلا: وإنكم فعلتم ذلك بتواطؤ بينكم وبينه، ولم تقوموا بمقتضى السّحر، ليتغلّب موسى. وهذا تلبيس على القوم، لئلا يعتقدوا أن إيمان السّحرة حقّ.
ولسوف تعلمون وبال فعلكم، ومدى عقابكم. وهذا تهديد ووعيد.
وإني لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، بقطع اليد اليمنى، والرّجل اليسرى، ولأصلبنكم في جذوع النّخل بعد ذلك. فأجابوه قائلين: لا ضير، أي لا حرج ولا ضرر علينا من ذلك، ولا نبالي به، فكل إنسان ميت ولو بعد حين، ومرجعنا إلى الله عز وجل، وهو سبحانه لا يضيع أجر المحسنين. وهذا لبّ الإيمان وإخلاص اليقين الذي لا شائبة فيه من رغبة في نفع، أو رهبة من عقاب، والمراد: فلا يضيرنا ذلك مع انقلابنا إلى مغفرة الله ورضوانه: وروي: أن فرعون أنفذ فيهم ذلك الوعيد، وصلبهم على النيل.
وأضاف السّحرة قائلين: وإننا نرجو أن يغفر الله لنا ذنوبنا وسيّئاتنا بفعل السّحر، لأجل كوننا أول أفواج أهل الإيمان الذين شهدوا هذا الموقف، من القبط وصنيعتهم.
وهذا الموقف المشهود لإيمان السحرة سيظل مبعث تخليد وتقدير، فرحم الله سحرة فرعون ورضي الله عن أولئك الذي انقلبوا في مشهد رهيب قادة أهل الإيمان، وقمة الشهداء البررة في سبيل العقيدة الحقّة بالله عز وجل.