الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالتزام ما أمر واجتناب ما نهى، واستقام على هذه الحال، كان أسعد الناس في الدنيا والآخرة. وفضل الله ورحمته وعدله وإحسانه شأن عام على كل العباد، وله مزيد من الخصوصية لأولياء الله الذين امتلأت قلوبهم خشية لله، وتفانت في إرضاء الله بالإقبال على الطاعة، وامتنعت من جميع أوضاع الانحراف والتقصير، واستمرت على هذا المنهج الحكيم. ولا غرابة في أن يهيئ الله لبعض عباده عزّا وسؤددا في الدنيا، بعد مهانة ومذلّة، وأن يمتّعهم بأفضال إلهية لا تنقطع في الآخرة، فتتحقق لهم سعادة الدارين، وتلك هي النعمة العظمى.
شراء القمح من مصر
في السنوات السّبع الثانية التي عم فيها القحط والجدب، لا مصر وحدها، وإنما بلاد الشام أيضا، لم يجد أولاد يعقوب عليه السلام، إخوة يوسف بدّا إلا التوجّه لأرض مصر لشراء القمح والقوت منها، لما بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه. فسافروا إلى مصر ليتم اللقاء بين يوسف وإخوته، قال الله تعالى واصفا هذا اللقاء الأول:
[سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 62]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
«1» «2» «3» [يوسف: 12/ 58- 62] .
(1) أي أوفى لهم الكيل وحملهم الطعام، أي القمح الذي جاؤوا لطلبه من عنده. والجهاز: ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع وكل ما يحمل. ومنه جهاز العروس وجهاز الميت.
(2)
ثمن ما اشتروه.
(3)
أوعيتهم.
قال السدي وغيره: سبب مجيئهم أن المجاعة التي أنذر بها يوسف أصابت البلاد التي كان بها يعقوب. روي أنه كان في العربات من أرض فلسطين بغور الشام.
لقد قدم أولاد يعقوب من فلسطين إلى مصر، فلما دخلوا على الوالي يوسف، وهو في مكانته ومنزلته العالية، عرفهم حين نظر إليهم لأن ملامح الكبار لا تتغير كثيرا، وهم له منكرون، لا يعرفونه، لمفارقتهم له وهو صغير، وباعوه لقافلة السّيارة العابرة المسافرين، والملامح في حال الصّغر تتغير كثيرا مع النمو والكبر، ولأنهم قدّروا هلاكه، ولم يفكّروا لحظة أن يوسف سيصير في هذه المنزلة، وهذه توقّعات منتظرة بحسب التقدير البشري العاجز الذي ينسى فيه الإنسان أن لله تعالى القدرة على صنع العجائب، وإيجاد ما لم يكن في الحسبان.
وأكّد هذا التّجاهل وعدم معرفة يوسف من إخوته: الكلام الذي دار بين يوسف وإخوته، حيث سألهم عن سبب مجيئهم وهو القدوم للميرة وحمل الطعام، وسألهم عن بلادهم وأهلهم وأبيهم وجميع أولاده، فأخبروه بأنهم اثنا عشر ولدا، هلك أصغرهم في البرية، وبقي شقيقه عند والده ليتسلى به ويعينه على أحوال المعيشة، فأمر يوسف بإنزالهم منزلا كريما، وبإكرامهم كرما عظيما.
ولما أوفى لهم الكيل، وحملهم من القمح عشرة أحمال، وزادهم حملين لأبيهم وأخيهم، قال: ائتوني في المرة القادمة بأخيكم من أبيكم وهو بنيامين، ألا ترون أني أتم لكم الكيل الذي تريدون دون بخس، وأزيدكم عليه، وأنا خير المنزلين المضيفين للضيوف. وكان قصده من ذلك ترغيبهم في الرجوع إليه.
وأخبرهم سلفا أنه إن لم تأتوا بأخيكم بنيامين في المرة الثانية، فليس لكم عندي ميرة طعام، ولا تدخلون بلادي. وقوله: وَلا تَقْرَبُونِ نهي لفظا ومعنى، معناه ألا يقربوا له بلدا ولا طاعة.
فأجابوه: سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ أي سنجتهد في طلبه من أبيه، ونحاول إقناعه بذلك برفق، وإنا لفاعلون ذلك لا محالة بمشيئة الله، ونحن حريصون على مجيئه إليك بكل إمكاناتنا، لتعلم صدقنا فيما نقول.
روي أن يوسف عليه السلام استوفى في تلك السنين الجدباء أموال الناس ثم أملاكهم، فلم يبق لأحد في أرض مصر ومزارعها ملك. وظاهر كل ما فعله يوسف مع إخوته أنه بوحي وأمر إلهي، وإلا فكان برّ يعقوب يقتضي أن يبادر إليه ويستدعيه، لكن الله تعالى أعلمه بما يصنع، ليكمل أجر يعقوب ومحنته، ويتبين سبب محبّته ليوسف، وتتفسّر الرّؤيا الأولى، بسجود أحد عشر كوكبا له.
وقال يوسف لفتيانه، أي لغلمانه وخدمه: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها أي اجعلوا البضاعة التي اشتروا بها الطعام، وقدموا بها للميرة، معاوضة أو بيعا، في أمتعتهم التي لهم من حيث لا يشعرون، لعلهم عند رجوعهم إلى أهلهم وبلادهم يعرفون حق ردّها وتكرمتها، فيرغبون فينا، ويرجعون إلينا حينئذ، أي بعد العودة إلى أهلهم وفتح أمتعتهم. والإنسان عادة يسرّ بأخذ الشيء مجانا، وبردّ البضاعة التي دفعها ثمنا. وهذا إغراء واضح بالعودة، وتحقيق للغاية الكبرى، وهي لقاء يوسف مع جميع أسرته، أبيه وخالته وإخوته. وهو أسلوب ناجح، وعمل طيب ازدان به حسن الاستقبال والضيافة الكريمة، والوداع المؤثر الذي لا ينسى، من قبل يوسف عليه السلام لإخوته الكبار، الذين أساؤوا إليه بإلقائه في البئر، فقابل الإساءة بالإحسان، وهو خلق الأنبياء والأصفياء والأولياء الكرام.