الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعصية، والله سميع لدعاء المخلصين الملتجئين إليه، عليم بصدق إيمانهم وبأحوالهم وما يصلحهم.
وماذا كانت النتيجة في المستوى الرسمي، لقد ظهر للملك وامرأته من المصلحة والرأي بعد شيوع الخبر والاتهام، وبعد معرفة براءة يوسف، وظهرت الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته، ظهر لهم بعد كل هذا أن يسجنوه لأجل غير معلوم، لإسكات الفتنة ونسيان التهمة التي لوّثت بها امرأة الملك. وكان هذا الخير تمهيدا لعودة يوسف ملكا لمصر وحاكما لها، والله يفعل ما يشاء ويختار.
قصة رفاق يوسف في السجن
إن مسرح الأحداث الجسام التي يتعرض لها الأنبياء لا يكاد يوجد له نظير في التاريخ، فهذا يوسف عليه السلام يزجّ به في غياهب السجون، وهو العفّ البريء البعيد عن التّهمة، ويعيث الجناة المردة الفساد في الأرض، ويناصرهم بعض الناس، لأنه مع الأسف يكثر أعوان الشّر، ويقلّ أعوان الخير. وكان سجن يوسف سببا قويّا في دعوة السجناء إلى عبادة الله وحده وترك الوثنية، مستعينا بما عليه من الصلاح والتقوى، ومعبّرا الرؤيا لمن رآها، فتأتي مطابقة للواقع، فيزداد المسجونون ثقة به وحبّا وإكبارا، وهذه هي قصة رفاقه في السجن، قال الله تعالى:
[سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 40]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَاّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)
«1»
(1) عنبا يؤول إلى الخمر عن طريق المجاز.
«1» [يوسف: 12/ 36- 40] .
رأت سلطة مصر المصلحة في سجن يوسف، فسجنوه، ودخل معه السجن فتيان مملوكان للملك، أحدهما ساقيه، والآخرة خبّازه، لتمالئهما على سمه في طعامه وشرابه، فرأيا رؤيا، فقال السّاقي: إني رأيت في المنام أني أعصر عنبا ليصير خمرا، وقال الخبّاز: إني رأيت أني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه، فقالا ليوسف:
أخبرنا بتأويل ما رأينا، وهل يقع ذلك؟ إننا نعلم أنك من الذين يحسنون تأويل الرؤيا، فدعاهما يوسف لتوحيد الإله، وترك عبادة الأصنام أولا.
ثم قال لهما قولا يدلّ على أنه نبي صادق: لا يأتيكما طعام في يومكما إلا أخبرتكما به قبل وصوله إليكما، وهذا من تعليم الله إياي بالوحي لا بالكهانة والتنجيم، وسبب الوحي أنني اجتنبت ملّة الكافرين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وهم الكنعانيون وأمثالهم في فلسطين، والمصريون عبدة الآلهة كالشمس والعجل وفرعون. واتّبعت ملّة آبائي الأنبياء والمرسلين: إبراهيم وإسحاق ويعقوب الدّعاة إلى التوحيد الخالص. وكلامه عن ترك الكفر واتّباع مبدأ التوحيد اشتغال عن شدة مصير رائي الخبز، وأن رؤياه تؤذن بقتله.
ثم قرر يوسف منهج الأنبياء عامة، فقال: ما صح لنا وما ينبغي لنا معشر الأنبياء
(1) المستقيم.
أن نشرك بالله، أي شيء كان، من ملك أو إنس أو جنّ، ذلك الإقرار بتوحيد الله وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو من فضل الله علينا، حين هدانا إليه، ومن فضل الله على الناس بإرسالنا إليهم، ننبّههم إلى الصواب ونرشدهم إليه، ونبعدهم عن طريق الضلال، ولكن أكثر الناس لا يشكرون نعمة الله وفضله، فيشركون بالله إلها آخر، ولا يقدّرون نعمة إرسال الرّسل إليهم، فمعنى قوله: لا يَشْكُرُونَ أي الشكر التام الذي فيه الإيمان.
يا رفاق السجن، هل القول بتعدد الآلهة والأرباب المتفرقين في الذوات والصفات خير وأجدى وأنفع، أو الإيمان بالله الواحد الأحد الغلاب القهار، الذي لا يحتاج لغيره، ويقهر بقدرته وإرادته كل شيء.
إن تلك الآلهة التي تعبدونها هي مجرد أسماء فارغة، حين سميتم أصنامكم آلهة، فليست عبادتكم لإله إلا باسم فقط، لا بالحقيقة والواقع، ولم ينزل الله بها حجة أو برهانا، وما الحكم والتّصرف النافذ والمشيئة والملك كله إلا لله، وليس لأصنامكم التي سميتموها آلهة من الحكم والأقدار والأرزاق شيء، فكيف تصح عبادتها وإطاعة الناس لها، إنها تسمية لا دليل عليها من عقل ولا نقل سماوي. والله سبحانه الخالق الرازق المهيمن القادر هو الذي أمر ألا تعبدوا وتطيعوا إلا إياه سبحانه، وهذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له، هو الدين المستقيم الذي أمر الله به، وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبّه ويرضاه.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك هو الدين الحق، الذي لا عوج فيه، ولهذا كان أكثرهم مشركين، كما قال الله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)[يوسف: 12/ 103] .