الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كيد خائن، ولا يرشّد سعيه، أي لا يكمله، ولا يمضيه على طريق إصابة أو صواب.
وفي هذا تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانة زوجها، وتعريض بزوجها في خيانته أمانة الله، حين ساعدها بعد ظهور الآيات المصدقة له على حبسه.
وعلى أي حال، سواء أكانت المقالة من يوسف عليه السلام أم من امرأة العزيز، فهي تقرّر مبدءا عظيما أو قاعدة صلبة: وهو أن الواجب يقضي بحفظ الأمانات والعهود، وصون حرمة الغائب، سواء كان زوج المرأة وهو عزيز مصر، أو كان يوسف عليه السلام، فإن الدفاع عن الغائب في مجلس أمر توجبه المروءة والحق وحفظ العهد والميثاق، والمبدأ الثاني: هو أن الله تعالى لا يسدّد عمل خائن، ولا يكمله ولا يحقق غاية أو هدفا، وهذا تطمين لأولئك المظلومين أو المستضعفين المقهورين، الذين يتولى الله تعالى مناصرتهم والدفاع عنهم، وحمايتهم من الظلم والسوء في النهاية، كما جاء في آية أخرى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)[الحج: 22/ 38] .
تولّي يوسف عليه السلام قيادة الحكم في مصر
أدانت زليخة امرأة العزيز نفسها، واعترفت بالحق والواقع الذي صدر منها، وهذه فضيلة وصراحة وجرأة، وتبيّن للملك براءة يوسف وعفّته وسجنه بغير حق، كما تبيّن له أمانته، وصبره وجلده، وتيقن حسن خلاله، وطيب فعاله، فولاه مقاليد الأمور في مصر، وهذا دليل الحكمة والوعي والرشد، وكان ذلك تمهيدا لارتقاء يوسف أعلى المنازل وتحقيق مراد الله تعالى في خضوع إخوته له واحتياجهم إليه. قال الله تعالى مبيّنا هذه الأحوال:
[سورة يوسف (12) : الآيات 53 الى 57]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَاّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)
«1» «2» [يوسف: 12/ 53- 57] .
توّجت امرأة عزيز مصر أقوالها واعترافاتها أمام الملك بقولها المعبّر عن ضعف الإنسان وتورّطه بالمساوئ، وهو أنني لئن برّأت يوسف، فما أبرئ نفسي من الزّلل والخطأ، إن النفس ميّالة بالطبع إلى الشهوات والأهواء. وهو اعتذار عن وقوعها فيما يقع فيه البشر عادة من الشهوات، كأنها قالت: وما هذا ببدع ولا ذلك بنكير على البشر، فأبرئ أنا منه نفسي، والنفوس أمّارات بالسوء، مائلة إليه، إلا النفوس التي يرحمها الله، فيحميها من التورّط في الفواحش، وإن الله ربّي غفّار للذنوب، رحيم بالعصاة إذا تابوا وأنابوا إلى الله.
هذا قول جمهور المفسّرين، ويرى بعضهم أن هذا من قول يوسف عليه السلام، لتذكّره ما كان هم به.
وأمام هذا الإعلان الصريح أمام الملك، قال: ائتوني بيوسف من السجن، أجعله من خلصائي ومستشاريّ، فلما خاطبه الملك واختبره، ورأى فضله وعلمه، ولمس أدبه وخلقه، قال له: إنك اليوم عندنا ذو مكانة ومنزلة، وموضع ثقة وأمانة، تؤتمن على كل شيء في شؤون الحكم وإدارة البلاد.
فقال يوسف للملك: اجعلني أيها الملك على مخازن الأرض التي تخزن فيها الغلال، أشرف عليها وأتصرّف بها، فأنقذ البلاد من المجاعة التي تهدّد أهلها، إني خازن أمين، ذو علم وبصيرة بما يتولاه. وهذا دليل على جواز المطالبة بالعمل،
(1) أي ذو مكانة ومنزلة ومؤتمن على كل شيء.
(2)
يتخذ منها مباءة ومنزلا.
حرصا على انتشار العدل من يوسف عليه السلام، وإنقاذا لأوضاع البلاد وتحقيق مصالح العباد. والخزائن: لفظ عام لجميع ما تختزنه المملكة من طعام ومال وغيره.
فأجابه الملك إلى طلبه، وجعله وزير المالية والخزانة، وأطلق له سلطة التصرف في شؤون الحكم، لرجاحة عقله وخبرته وحسن تصرّفه.
وتنفيذا لأمر الله وتقديره ومراده، وبيانا لجميل صنع الله بعباده وبنبيّه يوسف، ومثل هذا الإنعام الذي أنعم الله به على يوسف في تقريبه إلى قلب الملك، وإنجائه من السجن، أقدره الله على ما يريد، وجعل له مكانة ومنزلة في أرض مصر، وانتقل من حال العبودية إلى الملك والسلطان، والنفوذ والتفوق، يتبوأ في بلاد مصر المكانة العالية، والله سبحانه يصيب برحمته وإحسانه ونعمه من يشاء من عباده، ولا يضيّع في الدنيا والآخرة ثواب الذين يحسنون أعمالهم.
ولكن ثواب الآخرة للمؤمنين الأتقياء، وهو الظفر بجنان الخلد، خير وأعظم وأكثر من خير الدنيا وما فيها من مظاهر العزّ والسّلطان، والمال والزينة والرفعة.
وهذا يدلّ على أن ما ادّخره الله لنبيّه يوسف عليه السلام في الآخرة أعظم مما أنعم عليه من التّصرف والنفوذ في الدنيا. ومن جمع الله له السعادتين في الدنيا والآخرة، كان فضل الله عليه أكثر، وعطاؤه أتم، للقيام بالطاعة، وترك المعصية.
ويدلّ هذا أيضا على أن إحسان الإنسان لعمله، والتزامه الطاعة لا يضيع عند الله، ولكن حال الآخرة أحمد، وأحرى أن يتخذ غرضا ومقصدا، وحال يوسف في الآخرة خير من حاله العظيمة في الدنيا.
وكل ذلك مرهون بالتّقيّد بالإيمان الصحيح، والتقوى والاستقامة، لأن الإيمان أساس لقبول العمل الصالح. والتقوى برهان الصدق، وثمرة الإيمان. والاستقامة دليل الرشد والعقل والحكمة. ومن كان ذا إيمان واعتقاد سليم، واتقى الله ربّه