الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويتخذون تلك الأنداد آلهة مزعومة، ولم يبق لهم نصير ولا شفيع، والأمر كله يومئذ لله تعالى. وهذا تنبيه على زوال ما يدعون أن تلك الشركاء شفعاء لهم عند الله، وأن عبادتهم تقرّب إلى الله تعالى.
إن ما يلاقيه المشركون من خيبة الأمل بالأصنام ونحوها من المعبودات تبرهن للعقلاء أن السلطان في الحساب والثواب والعقاب لله وحده. وإذا كان الله وحده هو المحاسب للناس، فهو المعبود بحق، وما على الناس قاطبة إلا أن يوجهوا أنفسهم نحو ما يفيد، ويمنع الضّرر، وأنه لا شفاعة إطلاقا للأصنام ونحوها، فهي تعلن البراءة من عابديها ومن عبادتهم الباطلة.
ألا فليستيقظ الضمير والعقل البشري، وليعلم أن من بيده الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، والحساب والثواب والعقاب، هو الجدير بالعبادة والتعظيم، والتّنزيه والتّقديس، وطلب المدد منه سبحانه وتعالى.
مناقشة المشركين في وحدانيّة الله
ما من إنسان سوي عاقل إلا ويحسّ في أعماق نفسه بوجود الله الخالق، ولا بدّ من أن يمرّ في خاطره يوما ما ومضة من تفكير أو شعور مرهف بأنه بأشد الحاجة إلى قدرة الله في تفريج كربه، ونجاته من محنته، وهذا ما كان مستقّرا في أذهان المشركين الوثنيّين وعقائدهم، فإنهم كانوا يقرّون بوجود الله تعالى، ولكنهم كانوا يسيئون التّصوّر، فلا يوحّدون الله، وإنما ينسبون إليه الشّركاء من الأوثان والأصنام وغيرها، وهذا غاية الانحدار والهبوط في الفكر والتّصور والاعتقاد، لذا ردّ الله عليهم في هذه الآيات لإثبات توحيد الألوهية وتوحيد الرّبوبية معا من غير انفصال:
[سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 33]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
«1» «2» «3» [يونس: 10/ 31- 33] .
هذه الآيات مناقشة حادّة، وتوبيخ وإلزام في الحجة لأولئك المشركين الذين يقرّون بوجود الله، ولكنهم خطأ لا يعتقدون بوحدانية الله، قل أيها النّبي لمشركي مكّة وأمثالهم: من الذي ينزل المطر من السماء، فينبت به الزرع والشجر ومختلف النباتات والثمار والفاكهة، فيكون ذلك رزقا لكم أيها البشر، بسبب خيرات السماء وبركات الأرض، ومن الذي أوجد لكم السمع والأبصار، وهذا لفظ يعم جملة الإنسان ومعظمه، حتى إن ما عداهما تبع، ومن الّذي يهب الحياة، ويزيلها بالموت، فيخرج الحي من الميت كالجنين من النطفة، والطائر من البيضة، والنبات من الأرض، إذ له نمو شبيه بالحياة الحركية. ومن الذي يخرج الميت من الحي مثل البيضة من الطائر، والحبّ والنّوى من الزرع والشّجر، وهناك أمثلة علمية أخرى لإخراج الحيّ من الميت كالغذاء المحروق الذي يتناوله الإنسان، فيتولّد منه الدّم، وإخراج الميت من الحيّ كالخلايا الميتة في الدم والجلد التي يطرحها مع البخار والعرق. ومن الذي يدبّر أمور العالم ويسيطر على شؤون الكون، ويتصرّف في المخلوقات حسبما يشاء، من غير عوائق ولا موانع؟! هذه الأسئلة الخمسة لا يملك المشركون إلا أن يقولوا: إن الفاعل هو الله، فهو موجود من غير شكّ ولا مندوحة لهم عن هذا الإقرار، بسبب إيجاد الرزق، وإحياء الإنسان، وهبة الحياة، وإحداث الموت والفناء، وتدبير الأمور كلها. وإذا اعترف الإنسان بوجود الله، فما باله ينكر وحدانية الله؟ وقل لهم أيها الرسول: أفلا تتّقون
(1) الثابت الوجود بالبرهان.
(2)
تعدلون عنه إلى الكفر. [.....]
(3)
ثبتت ووجبت.
أنفسكم عقاب الله بالإشراك وعبادة غير الله، أفلا تتّقون في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة؟! فذلكم المتّصف بالقدرة الخلاقة والإرادة المبدعة هو الله الخالق المربّي والمدبّر، وهو الحق الثابت بذاته الذي لا شك فيه، وهو الواحد القهار الذي لا يصلح معه مخلوق في الألوهية والرّبوبية، ومن كانت هذه صفاته هو الرّب الحقّ، أي المستوجب للعبادة والألوهية، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق. وليس فيما وراء الحقّ إلا الضّلال والباطل، ومن يتجاوز الحق الذي هو عبادة الله وحده، وقع في الضّلال.
فكيف تصرفون عن الحق إلى الضّلال، وكيف تتحولون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال؟ ذلك ما لا يقبله عقل ولا منطق.
وكما كانت صفات الله كما وصف، وعبادته واجبة كما تقرر، وحقت الرّبوبية لله والألوهية لله، أي ثبتت واستقرّت في الواقع، كذلك حقّت وثبتت كلمة الله وحكمه على الذين فسقوا، أي تمرّدوا في الكفر، وأصرّوا على الضّلال: أنهم لا يؤمنون، أي حقّ عليهم واستقرّ انتفاء الإيمان في قلوبهم، وتحقّق منهم البعد عن الإيمان الحق. وإذا لم يؤمنوا بالرغم من استقرار هذه الصفات الإلهية التي لا مجال لإنكارها، فإنهم يكونون من أصحاب النار.
والخلاصة: إن المنطق يقضي بالتّسوية بين الإقرار بوجود الله، وبين الاعتراف بوحدانية الله، ولا يعقل التفريق بينهما، ومن آمن بوجود الله، فعليه أن يؤمن بتوحيد الله، وهذا أسلوب في إثبات التوحيد من طريق العقل والفكر المجرد، لأن توحيد الألوهية والرّبوبية متلازمان.