الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحمقاء التي تغزل غزلها وتفتله محكما، ثم تنقضه بعد فتله وإبرامه، فهو ليس من فعل العقلاء. تجعلون أيمانكم على الوفاء بالعهد خديعة ومكرا وتغريرا بالطرف الآخر، وتحلفون للناس إذا كانوا أكثر أو أقوى منكم، ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم، غدرتم. إنما يعاملكم الله معاملة المختبر، بأمره إياكم، بالوفاء بالعهد، لينظر أتغترون بالكثرة والقلة أم تراعون العهد، وسوف يبين الله لكم بيانا قطعيا يوم القيامة ما كنتم تختلفون فيه، من أمر الإيمان والكفر، والوفاء بالعهد والنقض، فيجازي كل عامل بعمله، من خير أو شر، وهذا إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام ونقض العهود.
حرية الإنسان واختياره
الشرع والعقل يقضيان بأن الإنسان حر الاختيار في الطاعة والمعصية، وفي سلوك سبل الخير أو السير في طريق الشر، ويختبر الله عباده بالأوامر والنواهي، ليذهب كل إنسان إلى ما يسّر له، والتيسير من الله عمل بمقتضى حق الملك، ولا يسأل عما يفعل، ولو شاء الله، لكان الناس كلهم في طريق واحدة، إما في هدى وإما في ضلالة، ولكنه تعالى شاء أن يترك حرية الاختيار للناس، وليظهر أثر الاختيار، في انقسام الناس فريقين: فريق الطاعة وأهل السعادة وفريق المعصية وأهل الشقاوة، قال الله تعالى:
[سورة النحل (16) : الآيات 93 الى 96]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)
«1»
(1) أي مكرا وخديعة.
«1» [النّحل: 16/ 93- 96] .
هذه الآيات الكريمة تقرر الحد الفاصل في القضية الكبرى: وهي حرية الاختيار للإنسان، التي على أساسها يكون الحساب والجزاء، والثواب والعقاب، فالله قادر على أن يجعل الناس على ملة واحدة أو دين واحد بمقتضى الفطرة والخلق، فقوله تعالى: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ معناه يخلق ذلك في القلوب، خلافا لقول المعتزلة، كما ذكر ابن عطية في تفسيره. ورتب الله تعالى على حرية الاختيار التوعّد في آخر الآية، بسؤال كل أحد يوم القيامة عن عمله، وهذا سؤال توبيخ وحساب، وليس ثمّ سؤال تفهّم، وهو المنفي في آيات.
ويقتضي الاختيار: أن يسلك الإنسان بموجب هداية الله وعقله مسلك أهل الصلاح والاستقامة في المعاملات والعلاقات الاجتماعية، فلا يصح الانحراف والخداع والمكر، لذا نهى الله عن اتخاذ الأيمان وسيلة خداع، ونهى عن نقض العهود والأيمان: أيمان البيعة على الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا اتخذت الأيمان وسيلة مكر وخديعة، فتزلّ قدم في الضلال بعد ثبوتها على جادة الاستقامة والإيمان. وهذا مثل لمن كان على الاستقامة، فحاد عنها، وزلّ عن طريق الهدى بأيمان حانثة، مشتملة على الصدّ عن سبيل الله، ومن انحرف أو زلّ، ذاق السوء، أي تحمل العذاب السيئ الأليم، وهو القتل والأسر في الدنيا، بسبب الصدّ عن سبيل الله، وله العقاب الشديد في الآخرة، جزاء المخالفة والانخراط في سلك الأشقياء الضالين.
والمقصود من الآية: إن نقضتم العهد أيها الناس، وقعتم في مفاسد ثلاثة: ترك الاستقامة، وتحمل شقاء الدنيا وعذابها، وعقاب الآخرة وجزائها.
(1) يفنى ويزول.
ثم حذّر الله تعالى من نقض العهد بأخذ الأعواض المالية التافهة مقابل ذلك، فقال سبحانه: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي لا تعتاضوا عن الأيمان المحلوفة بالله عرض الدنيا وزينتها، فإنها قليلة مؤقتة، وما عند الله من الفضل والثواب العظيم خير لمن رجاه وآمن به، وخير من عرض الدنيا الحقير، وذلك إن كنتم أيها المخاطبون، تعلمون مدى التفاوت العظيم بين خيرات الدنيا وخيرات الآخرة. قال ابن عطية عن هذه الآية: هذه آية نهي عن الرّشا وأخذ الأموال على فعل ما يجب على الآخذ تركه، أو ترك ما يجب عليه فعله، فإن هذه هي التي عهد الله إلى عباده فيها.
ووجه الخيرية واضح، فإن ما عندكم من متاع ونعيم دنيوي عرضة للنفاد والزوال، وإن طال الأمد، وما عند الله من ثواب ونعيم في الجنة ومواهب الآخرة باق خالد، لا انقطاع له ولا نفاد، وإنما هو دائم لا يحول ولا يزول، أي إن الدنيا فانية، والآخرة باقية دائمة.
والله بفضله وعدله يجزي بالخير والثواب الطيب الذين صبروا على أذى المشركين، وأعداء العقيدة، وعلى القيام بواجبات الإسلام وأحكام الشريعة، التي توجب الوفاء بالعهد وتنفيذ العقد، وكذلك بالصبر عن الشهوات، وعلى مكاره الطاعة، يجازيهم الله بأحسن أعمالهم، والتجاوز عن سيئاتهم، وهذا هو الثواب العظيم، وهو الوعد الحسن بغفران الذنوب، ومحو الخطايا، وهذه الآية إشارة إلى الصبر عن شهوة كسب المال بالوجوه المنكرة أو المحرمة، من الرّشاوى، وأخذ الأموال على ترك الواجبات، وفعل القبائح والمحظورات، فإن كل عاقل ينفر من الحرام، ولا يتقبل العفيف الشريف تلويث مكاسبه بالمحرمات والشبهات.