الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
2- استعجال العذاب من قوم نوح
يقع أتباع الرّسل وأقوامهم في الحماقة والطيش حينما يعادون رسولهم، ويصفونه بأوصاف كاذبة، ويلصقون به التّهم الباطلة، لتسويغ ضلالهم وزيغهم، ومن هؤلاء الحمقى: قوم نوح حينما انهزموا أمام حجته الدامغة، أوردوا عليه أمرين: الأول- أنه أكثر جدالهم، والثاني- مطالبتهم بالعذاب الذي توعدهم به. وأدى هذان الأمران إلى إعلان نوح اليأس من إجابتهم لدعوته، وزعمهم أن نوحا افترى هذا التوعد بالعذاب، وأراد الإرهاب عليهم بذلك. وهذا ما سجّله القرآن الكريم عليهم في الآيات التالية:
[سورة هود (11) : الآيات 32 الى 35]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
«1» «2» «3» [هود: 11/ 32- 35] .
الكلام عن قوم نوح تصوير دائم لأحوال مشابهة للكفرة في كل زمان ومكان، فما صدر من قوم نوح متجسد في أحداث التاريخ، وعقلية الأقوام المتلاحقة، فليست القضية إذن مجرد تاريخ للعبرة، وإنما هي صورة متكررة معادة لدى بعض الناس في أفكارهم وسلوكهم، ما دام خطاب القرآن واحدا.
والمعنى: قال قوم نوح له: قد طال منك هذا الجدال، وهو المراجعة في الحجة ومقابلة الأقوال ومناقشتها حتى تقع الغلبة، فأتنا بما تعدنا به من العذاب والهلاك
(1) بفائتين من عذاب الله بالهرب.
(2)
يضلّكم.
(3)
عقاب ذنبي.
المعجل في الدنيا، إن كنت صادقا في ادّعائك أن الله يعذبنا على عصيانه في الدنيا قبل الآخرة.
والجدال نوعان: محمود ومذموم مكروه، أما المحمود: فهو ما كان بالحسنى مع إنسان يطمع بالجدال أن يهتدي، ومنه قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النّحل: 16/ 125] . وأما الجدال المذموم أو المكروه: فهو ما يقع بين المسلمين بعضهم مع بعض في طلب علل الشرائع، وتصور ما يخبر به الشرع من قدرة الله. وقد نهى النّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وكرهه العلماء.
أجاب نوح قومه عن اتّهامه بكثرة الجدال قائلا: ليس إنزال العذاب أو العقاب بيدي، وليس لي توقيته، وإنما ذلك بيد الله، وهو الآتي به إن شاء وإذا شاء، ولستم من المنعة بحال من يفلت أو يعتصم لتنجوا، وإنما أنتم في قبضة القدرة الإلهية، وتحت سلطان الملك الإلهي، وليس نصحي بنافع، ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك، الله ربّكم، أي خالقكم والمتصرّف في أموركم، وهو الحاكم العادل الذي لا يجور، وإليه ترجعون في الآخرة، فيجازيكم بما كنتم تعملون في هذا العالم من خير أو شرّ.
ومعنى قوله تعالى: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ بيان ربط الأسباب بالمسببات، فمن تسبب في الضّلال والغواية أضلّه الله، وليس معنى الآية: أن الله يخلق الغواية والشقاوة فيهم، فذلك منوط بالعمل والكسب، والنتائج متوقفة على المقدمات.
وقوله سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ.. إما اعتراض في قصة نوح، كما ذكر الطّبري وغيره، وهي في شأن محمد صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش الذين قالوا: افترى محمد القرآن، وافترى هذه القصة على نوح، فنزلت الآية في ذلك. ويحتمل كون الكلام في شأن نوح عليه السلام، فإن قومه زعموا أن العذاب الذي توعّدهم به أمر مفترى