الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكافرون تتوفاهم الملائكة وتقبض أرواحهم، حالة كونهم ظالمي أنفسهم بالكفر والمعاصي والتعريض للعذاب، ولكن لما حضرهم الموت وعاينوا العذاب، أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين: ما كنا مشركين بربنا أحدا، وما كنا نعمل شيئا من السيئات، فكذبهم الله في قولهم ورد عليهم بقوله: بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي لقد عملتم السوء كله وأعظمه، والله عليم بأعمالكم، فلا فائدة في إنكاركم، والله يجازيكم على أعمالكم، فادخلوا أبواب جهنم للاستقرار فيها، وذوقوا عذاب إشراككم بربكم، وأنتم خالدون ماكثون فيها إلى الأبد، وساء المقر مقر دار الهون، ومقام المتكبرين عن آيات الله تعالى واتباع رسله.
صفات المتقين وجزاؤهم
بعد أن ذكر الله تعالى صفات المكذبين بالقرآن، المستكبرين عن آياته، ذكر للمقارنة والموازنة صفات المؤمنين الذين يصدقون بالوحي الإلهي، وبالجزاء المرتقب في الدنيا والآخرة، بالإسعاد في الحياة، والظفر بمنازل الخيرات ودرجات السعادة في جنان عدن، والأشياء تتميز بأضدادها، فإذا كان جزاء المتكبرين عن عبادة الله والتصديق بما أنزل على رسله هو نيران جهنم، فإن جزاء المتقين الممتثلين أوامر الله هو نعيم الجنان، فيظهر الفرق جليا بين الفريقين، ويتميز المحسنون من الأشرار، وهذا ما أبانته الآيات التالية:
[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
[النّحل: 16/ 30- 32] .
لما وصف الله تعالى مقالة الكفار الذين قالوا عن القرآن: إنه أساطير الأولين، عادل ذلك ببيان مقالة المؤمنين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لكل فريق ما يستحق، لتباين المنازل بين الكفر والإيمان.
وإذا قيل لأهل التقوى والإيمان بالله ورسوله والمحسنين أعمالهم: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالوا: أنزل الله في الوحي على نبينا خيرا، من أحسن في الدنيا بالطاعة فله حسنة في الدنيا، ونعيم في الآخرة، بدخول الجنة، ودار الآخرة خير من دار الدنيا، ونعمت الدار دار المتقين الذين أطاعوا الله واجتنبوا نواهيه.
أخرج الإمام أحمد ومسلم عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيعطى بحسناته في الدنيا، فإذا لقي الله عز وجل يوم القيامة، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا» .
والسائل للمتقين: هم الوافدون من المشركين على المسلمين في أيام المواسم والأسواق، فكان الرجل يأتي مكة، فيسأل المشركين عن محمد وأمره، فيقولون: إنه ساحر وكاهن وكذاب، فيأتي المؤمنين، ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه، فيقولون: أنزل خيرا.
ثم وصف الله دار المتقين بأنها جنات عدن، أي إقامة، تجري بين أشجارها وقصورها الأنهار، ونعيمها دائم ميسّر غير ممنوع، وللمحسنين في الدنيا ما يتمنون ويطلبون في الجنات، كما قال الله تعالى: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزخرف: 43/ 71] وهذا جزاء التقوى والمتقين، ومثل ذلك الجزاء الطيب، يجزى الله كل من آمن به واتقاه، وتجنّب الكفر والمعاصي، وأحسن عمله، وهذا حث على ملازمة التقوى، وإغراء للمتقين بالاستزادة من أعمال الخير.
وحال المتقين عند الاحتضار أو الموت على عكس حال الكفار والمشركين، تقبض الملائكة أرواحهم طاهرين طيبين من الشرك والمعصية وكل سوء، وتسلّم عليهم الملائكة وتبشرهم بالجنة عند قبض الأرواح، تقول لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي سلام عليكم من الله، وأمان لا خوف، وراحة لا مكروه، ادخلوا الجنة التي أعدها لكم ربكم بسبب أعمالكم الطيبة وأفعالكم الخيرة الحسنة، ولما بشرتهم الملائكة بالجنة، صارت الجنة كأنها دارهم، وكأنهم فيها، وهي خاصة بهم، لا يشاركهم فيها غيرهم، وهذا مثل الوارد في آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)[فصّلت: 41/ 30] .
وقوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ عبارة عن صلاح حالهم واستعدادهم للموت، وهذا بخلاف ما قال الله تعالى في الكفرة: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي بالكفر والشرك والضلال. و (الطيب) : هو الذي لا خبث معه، ومنه قوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزّمر: 39/ 73] .
وقوله سبحانه: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تعبير عن قانون العدل، حيث جعل الله الأعمال أمارة لإدخال العبد الجنة، ولا يتعارض هذا مع
الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما: «لا يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» .
فهذا تعبير عن مقتضى الرحمة التي هي فوق العدل، ومن الرحمة أن يوفق الله العبد إلى أعمال برّة.
والقصد من الحديث نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة، وإنما دخول الجنة بمحض فضل الله وإحسانه وتعميم رحمته.