الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهم أحد، ولا يلتفت منكم أحد إلى الوراء إذا سمعتم الصيحة بالقوم، حتى لا يشفقوا على بلادهم وأقوامهم حين معاينة ما جرى على القرية في رفعها وطرحها، وسيروا بأمر ربّكم غير ناظرين وراءكم، إلى بلاد الشام فإنها مأمنكم ومكان نجاتكم.
وتصوير هذه الإنذارات والإعدادات للعذاب يغني عن رؤية حالة الدمار والهلاك الواقع، ويزرع في القلب الخوف والهلع الشديد، ويوجب على النّاجين مزيد الحمد والشكر، ويردع أهل الجريمة مما يساورهم من صنوف الاجرام، إذا عرفوا ما يحلّ بالمجرمين في دار الدنيا قبل عذاب الآخرة.
العذاب الواقع بقوم لوط
يغفل أهل الاجرام عادة عن الجزاء والعقاب الذي يلقونه، بسبب انغماسهم في الشهوات والأهواء، وظنهم أن العذاب لن يطالهم، وأنهم سيفلتون من العقاب، وكل ذلك من وسواس الشيطان وضعف الوعي وقلة الإدراك، والحماقة وسوء التقدير، لكن العقاب حق وعدل يأتي في الوقت المناسب بعد اليأس من الصلاح، وهذا ما حدث لقوم لوط، فإنهم أفرطوا في ارتكاب الفواحش، وبالغوا في تكذيب الرسول لوط، وأصرّوا على الغلوّ في الكفر والضلال، فكان التقدير الإلهي لهم بالمرصاد، وهذا ما وصفه القرآن الكريم للعبرة والاتّعاظ، قال الله تعالى:
[سورة الحجر (15) : الآيات 66 الى 77]
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
«1» «2» «3»
(1) أي أوحينا إلى لوط عليه السلام أمر الهلاك.
(2)
آخرهم أي جميعهم.
(3)
داخلين في الصباح.
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [الحجر: 15/ 66- 77] .
هذا حكم الله وقضاؤه، وتدبيره وعقابه الحقّ العادل، لقوم دأبوا على الفحش وقلّة الحياء، ومعاداة الرّسل والأنبياء. وهو تدبير سريع التنفيذ، لذا أخبر الله نبيّه لوطا وأوحى إليه أن أمر هلاك قومه مقضي قضاء مبرما، وهو ماض حتما، وأن العذاب يشمل أول القوم وآخرهم، وهو عذاب الاستئصال في وقت الصباح.
وألفاظ الآية: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ دالّة على الاستئصال والهلاك التّام.
ومما زاد في أمر جريمة فاعلي اللواط في سدوم فحشا واستهجانا: أنهم حين علموا بأضياف لوط الرائعي الجمال، المتميزة وجوههم بالصباحة والإشراق، جاؤوا مسرعين مستبشرين بهم فرحين، أملا وطمعا في ارتكاب الفاحشة معهم.
فقال لهم لوط: إن هؤلاء ضيوف، فلا تفضحوني بارتكاب ما يؤدي إلى العار معهم، والضيف يجب إكرامه، واتّقوا الله ولا تخزوني، أي وخافوا عذاب الله، ولا تذلّوني وتخجلوني بإذلال ضيفي، وإهانته، فإن الإساءة إليه وإهانته إساءة وإهانة لي.
فأجابوه قائلين: ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة، ونهيناك أن تضيف أحدا؟! فأجابهم لوط مرشدا لهم: تزوجوا بنساء الأمّة اللاتي أباحهن الله لكم، وتجنّبوا إتيان الرجال، إن كنتم فاعلين ما آمركم به، منتهين إلى أمري. والمراد بقوله:
(1) أي نساء الأمة من طريق الزواج.
(2)
قسم من الله بالنبي.
(3)
أي يترددون.
(4)
أي وقت شروق الشمس.
(5)
طين متحجر. [.....]
(6)
المعتبرين المتأملين.
هؤُلاءِ بَناتِي ليس إباحة البنات مطلقا، وإنما المراد التّزوج بنساء قومه لأن الرسول في القوم كالأب لهم. ومن فسّر كلمة بَناتِي ببنات صلبه، أراد ذلك على طريق المجاز، كما تقول لإنسان تراه يريد قتل آخر:«اقتلني ولا تقتله» . فإنما ذلك على جهة التشنيع عليه، واستدعاء الحياء منه، وحمله على العدول عن إجرامه، وهذا كله من مبالغة القول الذي لا يدخله معنى الكذب.
ثم أقسم الله بقوله: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) أي أقسم بحياتك وعمرك أيها الرسول- وفي هذا تشريف عظيم للوط- إنهم في غوايتهم يتحيّرون، وفي ضلالتهم يتردّدون أو يلعبون.
فنزلت فيهم صيحة جبريل عليه السلام، وهي ما جاءهم من الصوت القاصف المرعب، عند شروق الشمس، فجعلت القرية أو المدينة عاليها سافلها، أي انقلبت في الأعماق، وانقلب القوم فيها، وأنزل الله تعالى عليهم حجارة من طين متحجر طبخ بالنار وهو السّجيل. لقد اقتلع جبريل عليه السلام المدينة بجناحه ورفعها، حتى سمعت ملائكة السماء صراخ الديكة ونباح الكلاب، ثم قلبها، فمن سقط عليه شيء من ردم المدينة مات، ومن أفلت منهم أصابته حجارة من سجّيل: وهي الحجارة المطبوخة من الطين كالآجرّ ونحوه.
إن في هذا الصنيع بقوم لوط من الهلاك والدمار، وإنجاء لوط وأهله المؤمنين لدلالة وعبرة للناظرين المتأمّلين المعتبرين، وإن مدينة سدوم التي أصابها هذا العذاب لهي طريق واضحة للمسافرين المارّين بها، فما تزال آثارها باقية إلى اليوم، في وادي الأردن. وفي ذلك أيضا لدلالة واضحة للمؤمنين بالله ورسله بأن العذاب انتقام من الله لأنبيائه.