الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومصلحا ما يمكنه إصلاحه في دائرة ملكه الواسع العريض، وقائما بما منحه إياه ربه من مقتضى الحكمة والعلم النافع، فبعد أن وصل المشرق والمغرب، اتجه من الشرق إلى الشمال، فاستنجد به أقوام الشمال، فأعانهم مخلصا لله من غير أجر ولا عوض.
وهذه الرحلة الثالثة أخبر عنها القرآن الكريم في الآيات الآتية، قال الله تعالى:
[سورة الكهف (18) : الآيات 92 الى 98]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96)
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» [الكهف: 18/ 92- 98] .
هذه تتمة الرحلة الشاقة لذي القرنين سلك الطرق المؤدية إلى مقصده، لأنها سبب الوصول، فكان- كما ذكر المؤرخون- يدوس الأرض بالجيوش الثقال، والسيرة الحميدة، وتقوى الله عز وجل، فما لقي أمة، ولا مرّ بمدينة إلا دانت له، ودخلت في طاعته وكل من عارضة جعله عظة وآية لغيره. ثم وصل بين السدين (الجبلين العظيمين) بين أرمينية وأذربيجان، فوجد من ورائهما قوما من الناس شرقي البحر الأسود، وهم الصقالبة (السلاف) لا يكادون يفهمون كلام غيرهم، لغرابة لغتهم، وقلة فطنتهم ونباهتهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الجبلان اللذان بينهما السّدّ: أرمينية
(1) جبلين عاليين.
(2)
قبيلتين من ذرية يافث بن نوح.
(3)
أي جعلا من المال نتبرع به، وهو الخراج.
(4)
حاجزا حصينا.
(5)
أي قطع الحديد. [.....]
(6)
أي جانبي الجبلين.
(7)
أي نحاسا مذابا.
(8)
يعلوا عليه.
(9)
خرقا.
(10)
مدكوكا.
وأذربيجان. فقال سكان السد بين الجبلين: إن يأجوج ومأجوج (وهما قبيلتان من بني آدم) يفسدون في أرضنا بالتخريب والقتل والظلم ونحوه من مفاسد البشر.
فهل توافق على أن نعطيك جعلا من المال، على أن تقيم بيننا وبين هؤلاء المفسدين حاجزا منيعا يمنعهم من الوصول إلينا؟
قال لهم ذو القرنين: ما بسط الله لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، وبعمل الأيدي، أعطوني قطع الحديد، حتى إذا حاذى بالبنيان رؤوس الجبلين طولا وعرضا، قال للعمال المساعدين: انفخوا بالكير على هذه القطع الحديدية، حتى اشتعلت النار المتوهجة، ثم صبّ النحاس المذاب على الحديد المحمى والحجارة، فصار كله كتلة متلاصقة وجبلا صلدا، وانسدت فجوات الحديد. فما قدر المفسدون من يأجوج ومأجوج أن يصعدوا فوق السد، لارتفاعه وملاسته، وما استطاعوا نقبه من الأسفل، لصلابته وشدته، وأراح الله منهم القبائل المجاورة، لفسادهم وسوئهم.
وقال ذو القرنين بعد إقامة السد المنيع الحصين لأهل تلك الديار: هذا السد نعمة، وأثر من آثار رحمة ربي بهؤلاء القوم الضعفاء، فإذا حان أجل ربي وميعاده بخروجهم من وراء السدّ، جعله ربي مدكوكا منهدما، مستويا ملصقا بالأرض، وكان وعد ربي بخرابه، وخروج يأجوج ومأجوج، وبكل ما وعد به حقا ثابتا لا يتخلف، كائنا لا محالة.
إن تطواف ذي القرنين في أنحاء الأرض ذو أثر كبير في التاريخ، فهو تطواف مؤيد بمعونة الله، من أجل مقاومة الفساد الخلقي والفوضى الاجتماعية، وغرس أصول الإيمان والحق والخير، وحمل الناس على منهاجه السديد وخطته الإصلاحية، وبها يعرف ما لذي القرنين الرجل الصالح من آثار طيبة وأعمال صالحة، تشبه أعمال الرسل والأنبياء، وتدل على حب الخير للإنسانية جمعاء.