الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوضح ذلك ما
جاء في الحديث الذي ذكره السيوطي في الجامع الكبير «1» : «إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته، لأفسدت عليه دينه»
فقد يكون الغنى استدراجا إلى النار، والفقر عقوبة، وقد يكون المؤمن الصالح فقيرا، فليس تضييق الرزق على بعض الناس لسوء حالهم عند الله تعالى، ولا الإمداد والتوسعة على آخرين لحسن حالهم.
تحريم القتل والزنى وأكل مال اليتيم
لقد صان القرآن الكريم حق الحياة العزيزة الكريمة، من أجل بقاء النوع الإنساني الطاهر النظيف، وجعل الاعتداء على الأولاد والأنفس جريمة، ووأد البنات عارا ورذيلة، ووصف العلاقات غير المشروعة بأنها فاحشة وسبيل سيئ، وطريق محفوف بالمخاطر والعواقب الوخيمة، وجعل أكل أموال اليتامى ظلما وعدوانا، والوفاء بالعهد أو العقد فضيلة ومحل مسئولية ومطالبة، قال الله تعالى مبينا هذه القواعد:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 31 الى 34]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34)
«2» «3» «4» «5» [الإسراء: 17/ 31- 34] .
(1) وهو المسانيد 2/ 267.
(2)
خوف فقر.
(3)
إثما عظيما.
(4)
تسلطا على القاتل بطلب القصاص أو الدية.
(5)
قوته على حفظ ماله.
نهى الله تعالى في هذه الآيات عن ثلاثة أشياء: وهي القتل إلا بالحق، والزنا، وقربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وابتدأ الله تعالى بالنهي عن قتل الأولاد، وهو وأد البنات في قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8)[التكوير: 81/ 8] يقال: كان جهل بعض العرب يبلغ أن يعز واحد منهم كلبه ويقتل ولده. نهى القرآن عن الوأد الذي كانت العرب تفعله، خشية الإملاق (أي الفقر وعدم المال) فإن رازق الأولاد وآباءهم هو الله تعالى، وقتلهم إثم عظيم وذنب كبير، وهذا دليل على أن تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده، لأنه نهى عن قتل الأولاد.
جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود: «قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّا، وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك» .
ثم حرم الله الزنا «1» وحذّر من الاقتراب منه ومن تعاطي أسبابه ودواعيه، لأن تعاطي الأسباب مؤد إليه، والزنا فعلة فاحشة شديدة القبح، وذنب عظيم كقتل الأولاد، وساء طريقا ومسلكا، لأن فيه هتك الأعراض، واختلاط الأنساب، واقتحام الحرمات، والاعتداء على حقوق الآخرين، وتفويض دعائم المجتمع بهدم الأسرة، ونشر الفوضى، وانتشار الأمراض الفتاكة، والوقوع في الفقر والذل والهوان.
ثم حرم الله تعالى قتل النفس المعصومة المصونة إلا إذا وجد حق أو مسوغ للقتل، وهو أي الحق ما فسّره
النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا يحلّ دم المسلم إلا إحدى ثلاث خصال: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس أخرى» .
فالقتل بغير حق جريمة عظمي، لأنه اعتداء على حق الحياة، وإفساد، والله تعالى لا يحب الفساد.
(1) قال ابن عطية: الزنى يمدّ ويقصر، والقصر لغة جميع كتاب الله تعالى.
ومن قتل ظلما وعدوانا بغير حق يوجب قتله، فقد جعل الله لمن يلي أمره من قريب كأب أو أخ، أو سلطان حاكم عند عدم وجود القريب الوارث، سلطة على القاتل، فيختار أحد أمرين: إما القصاص بعد إصدار حكم قضائي وبإشراف القاضي، وإما العفو عنه على الدية أو مجانا، والسلطة لولي الدم مقيدة بألا يسرف في القتل، بأن يمثّل بالمقتول، أو يقتل غير القاتل، أو يقتل أكثر من واحد من قبيلة القاتل، ووعد الله قريب القتيل بالعون والنصر على القاتل، فلا يسرف في القتل، فإن الله تعالى أوجب له القصاص، ويعوضه الله خيرا في الدنيا والآخرة بتكفير الخطايا، وتعذيب القاتل في النار. ويكون الأولى ترك القصاص، وأخذ الدية أو العفو مجانا.
ثم حرم الله تعالى أكل مال اليتيم، أو إتلافه، فلا يجوز الاقتراب من مال اليتيم إلا لفائدة أو مصلحة، وهي الطريقة الحسنة بحفظ ماله وتثميره، وتنميته والأكل منه حال الفقر أو الحاجة، حتى يبلغ رشيدا، ويبلغ أشده، أي يبلغ مبلغ الرجال، وحينئذ يسلّم له ماله. وهذا خطاب للأوصياء المشرفين على أموال اليتامى. والمراد من قوله تعالى: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: إلا بأحسن الحالات.
وانتهت الآية بالأمر بالوفاء بالعهد، وهو لفظ عام يشمل كل عهد ووعد وعقد بين الإنسان وربه، أو بينه وبين المخلوقين في طاعة، فالوفاء بالعهد وتنفيذ شروط العقد من الإيمان، وإن تنفيذ العهد مطلوب ممن عوهد أو عهد إليه، هل وفّى به أم لا؟
إن الوفاء بالعهد أو العقد: معناه تنفيذ مقتضاه، والحفاظ عليه على الوجه الشرعي، وبحسب التراضي الذي لا يصادم أصول الشرع، خلافا لمن يتهاون بالعقود ويتخلص منها وينقضها إذا تبدل وجه المصلحة، فذلك ذنب عظيم وجرم كبير، يتساهل به من لا دين له ولا خلق ولا كرامة.