الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة مريم
قصة زكريا عليه السلام
الرغبة في الذرية والإنجاب منزع فطري طبيعي، لأن محبة الولد عاطفة متأصلة في النفس الإنسانية، وقد يكون ذلك أيضا لمصلحة من أجل وراثة جهد الأب، والعون على شؤون الحياة ومصالح العمل، وقضايا الزراعة، ومتاعب العجز والمرض والشيخوخة. لذا رغب زكريا، عليه السلام، في إنجاب الولد، لا لمصلحة دنيوية، وإنما من أجل وراثة النبوة والعلم الإلهي، والتخوّف من العصبات غير المستقيمين على أمر الله وشرعه وآدابه، فدعا زكريا ربه أن يخلفه ولد من أجل هذا، قال الله تعالى حاكيا هذه القصة في مطلع سورة مريم المكية:
[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 6]
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
«1» «2» «3» «4» «5» »
«7» [مريم: 19/ 1- 6] .
كان لزكريا عليه السلام شركة في خدمة الهيكل، وكانت مريم البتول عليها السلام
(1) دعاء لم يسمعه أحد.
(2)
ضعف.
(3)
خائبا في وقت ما.
(4)
الموالي: هم عصبة الرجل، أقاربه من جهة الأب.
(5)
أي لا تلد.
(6)
ابنا يلي الأمر بعدي.
(7)
مرضيا عندك.
التي نذرتها أمها لخدمة الهيكل من نصيب كفالة زكريا فهو زوج أختها، فلما رأى إكرام الله تعالى لمريم ورزقها من حيث لا تحتسب، دعا أن يرزقه الله تعالى الولد، وهذه هي القصة.
افتتحت سورة مريم بالأحرف المقطعة (كهيعص) للتنبيه لما يذكر في هذه السورة، وتحدي العرب بالإتيان بمثل القرآن، ما دام الكلام القرآني مركبا من حروف الهجاء العربية التي هي مادة تركيب الجملة والكلام العربي نثرا وخطابة وشعرا، فوجود هذه الحروف لمعان معينة، وليس في كتاب الله ما لا يفهم، ثم أعقبت هذه الأحرف بما يلي:
هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك عبده زكريا، الذي كان أحد الأنبياء العظام لبني إسرائيل، وزوجته خالة (عيسى) . والمراد بذكر الرحمة: بلوغها وإصابتها وإجابة الله دعاء زكريا. وذلك حين نادى زكريا، أي نادى بالدعاء والرغبة، في حال من إخفاء النداء، لأن الأعمال الخفية أفضل وأبعد عن الرياء، ومنه
قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وغيره: «خير الذكر الخفي» .
وقال بعض العلماء: يستحب الإخفاء بين العبد ومولاه في الدعاء الذي هو في معنى القبول والمغفرة لأنه يدل من الإنسان على أنه خير، فإخفاؤه أبعد من الرياء، وأما دعاء زكريا وطلبه، فكان في أمر دنيا، وهو طلب الولد، فإنما أخفاه لئلا يلومه الناس في ذلك، وليكون على أول أمره، إن أجيب نال بغيته، وإن لم يجب لم يعرف أحد بذلك. ويقال: وصف بالخفاء لأنه كان في جوف الليل.
قال زكريا، عليه السلام، في دعائه الخفي: يا رب، لقد صرت فاتر العظام، ضعيف البنية والقوى، هرما كثير الشيب، ولم أعهد منك إلا إجابة الدعاء، ولم تردني قطّ فيما سألتك، فما كنت خائبا، بل كنت كلما دعوتك استجبت لي. وإني
خفت أقاربي العصبات من بني العم ونحوهم إهمال أمر الدين وتضييعه من بعد موتي، فطلبت ولدا نبيا من بعدي، يحرس بنبوته شأن الدين والوحي، وكانت زوجتي عاقرا لا تلد.
فكانت مسوغات الدعاء ثلاثة: ضعف البدن مع عقم امرأته، وكونه مستجاب الدعاء، وخوفه من ورثته من ضياع الدين بعد موته. ولم يكن خوفه من إرث المال، لأن الأنبياء لا يورثون،
جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث، ما تركناه صدقة» .
وفي رواية: «نحن معشر الأنبياء لا نورث» .
فامنحني وأعطني من جنابك وواسع فضلك وليا يلي أمر الدين، يكون ولدا من صلبي، يرثني النبوة، ويرث ميراث آل يعقوب، وهي وراثة العلم والنبوة، على الراجح، لا وراثة المال، فيرث ما عندهم من العلم، ويقوم برعاية أمورهم في الدين، واجعله يا رب برّا تقيا مرضيا عندك في أخلاقه وأفعاله، ترضاه وتحبه أنت، ويرضاه عبادك ويحبونه، ليكون أهلا لحمل رسالة الدين، وتعليمه وتبليغه، وإقامة شعائره.
وأما يعقوب فهو إسرائيل، وكان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران، ويرجع نسبها إلى يعقوب.
ولهذه الآية نظائر في القرآن الكريم، مثل: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38)[آل عمران: 3/ 38] . ومثل: وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89)[الأنبياء: 21/ 89] .
ويلاحظ أن زكريا عليه السلام لما رأى من حاله، إنما طلب وليا أي ناصرا، ولم يصرح بالولد، لبعد ذلك بسبب عقم المرأة، وكبر سنه. ووصف الولي بأن يكون وارثا، يرث من آل يعقوب الحكمة والعلم والنبوة، والميراث في هذا كله استعارة.