الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وطمع إبراهيم في المغفرة، وهذا دليل على شدة خوفه من ربّه، مع علوّ منزلته، واتّصافه بالخلّة، فهو خليل الرّحمن، وإمام الحنفاء، وأبو الأنبياء.
وطلب إبراهيم من ربّه غفران خطيئته، مريدا بذلك كذباته الثّلاث: وهي قوله للملك: «هي أختي» في شأن سارّة، وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ [الصّافّات: 37/ 89]، وقوله:
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: 21/ 63] . وهي في الواقع ليست كذبات في الحقيقة، وإنما ذلك من قبيل التورية وتوجيه الكلام لمعنى آخر، ومن أجل أغراض أخرى قصدها تتعلق بنشر دعوته. والأظهر أن إبراهيم أراد بالخطيئة اسم الجنس من غير تعيين في كل أمره.
-
2- دعاء إبراهيم عليه السلام
الدّعاء مخّ العبادة، ودليل الإخلاص وحبّ الله تعالى، وصدق التّوجه إليه، يحتاج إليه كل مؤمن في كل حال، تتردّد به شفاه المكروب والحزين، ويلجأ إليه المريض المتألّم، ويلوذ إليه الخائف المضطرب، ويضرع به المسافر، ويستعين به للتّغلّب على العدو، والتّخلص من وساوس الشيطان، ويستمتع به المتنعّم لطلب رضوان الله، والخلود في جنان النّعيم، والاستعاذة من العذاب الأليم. فهو سلوة المكروب، ورجاء الطامع، وأمل الصّالح، ولا يستغني عنه حتى النّبي المرسل، لذا عبّر إبراهيم الخليل عليه السلام في دعائه عن حرارة الشّوق إلى الله، وإمداده بفضل الله ورحمته في الدنيا والآخرة، فقال:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 89]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
«1»
(1) ثناء حسنا.
«1» «2» [الشّعراء: 26/ 83- 89] .
تضمّن دعاء إبراهيم الخليل مقوّمات القدوة الحسنة، والصفوة المختارة، والقرب من الله تعالى، لتعليم الآخرين والاقتداء به، وهي ستة مطالب أراد بها معنى التّثبيت والدوام.
1-
يا رب أعطني الحكم، أي الحكمة والنّبوة، والفهم والعلم، لإنارة سبيل الحياة، والتّعرف على صفاتك العليا، وقد أوتي النّبوة ويقين الإيمان.
2-
ووفقني لطاعتك، لأكون في زمرة الصالحين في الدنيا والآخرة، وقد أجاب الله دعاءه، كما في آية أخرى: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 29/ 27] .
3-
واجعل لي ذكرا جميلا بعدي، وسمعه طيبة، في الدنيا، بتوفيقي للعمل الصالح، والاقتداء بي في الخير، ولسان الصدق: الثّناء الجميل وتخليد المكانة، وأجاب الله دعاءه كما جاء في آية أخرى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصّافّات: 37/ 108- 110] . وهو محترم ومحبوب لدى جميع أهل الأديان. وكل ملّة تتمسك به وتعظّمه، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.
4-
واجعلني من ورّاث الجنة وأهلها الذين ينتفعون بخيراتها ونعيمها، كما يتمتع الوارث بإرث مورثه في الدنيا. وهو يقينا من أهل الجنة، لأنه رسول، ويلاحظ أنه لما فرغ من مطالب الدنيا، طلب سعادة الآخرة، وهي جنّة النعيم، قال الله تعالى:
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)[مريم: 19/ 63] .
(1) لا تفضحني ولا تذلني.
(2)
الظاهر أن الاستثناء منقطع، أي لكن من أتى الله.
5-
واغفر لأبي ذنبه، ووفقه للتوبة والإسلام، فإنه ضال عن طريق الهدى، أي مشرك. واستغفاره لأبيه في هذه الآية قبل أن يتبين له بموته على الكفر: أنه عدوّ لله، أي محتوم عليه سوء اعتقاده بإصراره على الشّرك، كما قال الله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التّوبة: 9/ 114] .
6-
ولا تفضحني بعتاب على ما فرّطت، أو بنقص منزلة عن وارث، واسترني من الخزي والهوان يوم القيامة، وهذا مبالغة منه عليه الصلاة والسلام في تحرّي الكمال والسلامة والنّجاة، في يوم شديد الأهوال. فكلمة وَلا تُخْزِنِي إما من الخزي: وهو الهوان، وإما من الخزاية: وهي الحياء. وهذا سيتحقّق بفضل الله، لأنه إمام الحنفاء، وأبو الأنبياء.
ثم وصف يوم القيامة الذي يخاف منه بأنه يوم لا ينفع الإنسان فيه مال ولا بنون، ولا يقيه شيء من عذاب الله ولو افتدى بملء الأرض ذهبا، إلا من أتى الله بقلب سليم من الشوائب، فينفعه سلامة قلبه. والقلب السليم لله: هو الخالص السليم من الشّرك والمعاصي، ومتاع الدنيا ولو كان مباحا، كالمال والبنين. ومما لا شك فيه أن الأهم والأخطر لسلامة القلوب: هو تخلّصها من الشّرك والنّفاق، والكفر والضّلال، لأن الشّك والشّرك والنّفاق هي أمراض القلوب، كما قال الله تعالى في وصف المنافقين: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة: 2/ 10] . وكان إبراهيم عليه السلام ذا قلب صاف من كل معكرات الإيمان، وذا فطرة سليمة من جميع شوائب الضلال.
وفي السّنة النّبوية الصحيحة أدعية مأثورة يشبه بعضها ما جاء في هذا الدّعاء.
منها: