الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويكون المقصود من الآية عقد مقارنة بين الزائل والدائم، أما الزائل فلا قرار له، وأما الدائم فهو الثابت بنحو مستمر، والاستمرار إنما يكون ببقاء الأثر، والعمل الصالح الشامل للأقوال والأفعال الطيبة المرضية لله تعالى: هو الذي يحقق دوام الأثر، وفضيلة الثواب، وزهرة الآمال اليانعة التي يحلم بها الإنسان، وتحقق له دوام السعادة، ومتعة الحياة، والجمال الذي لا يزول، والفضل الإلهي الشامل، وجنة الخلد اليانعة، التي غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
مشاهد القيامة الحاسمة
مهما تعرض الإنسان للأحداث والمحن الدنيوية، فإنها تكون هينة صغيرة أمام أحداث القيامة الرهيبة، لأن أحداث الدنيا يعقبها دائما أو غالبا انفراج وزوال للكروب، أما أحداث الآخرة، فهي حاسمة شاملة لا أمل فيها بالتغير ولا الانفراج أو احتمال الزوال، لذا تكاد النفس أو الروح تنخلع من الجسد، ويشتد الضيق والألم، حينما يشاهد المرء ما يتعرض له الكون من تدمير وخراب، ويتسلم صحيفة عمله التي هي بمثابة الحكم القضائي المبرم الذي يتلقاه المتهم في محاكم الدنيا، ثم يزجّ به في غياهب السجون، لتنفيذ مقتضى ذلك الحكم. قال الله تعالى واصفا هذه المشاهد المفزعة والمخيفة:
[سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 49]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
«1» «2» «3» «4»
(1) ظاهرة.
(2)
وقتا لإنجاز الوعد بالبعث.
(3)
خائفين.
(4)
يا هلاكنا.
«1» [الكهف: 18/ 47- 49] .
المعنى: اذكر أيها الرسول يوم تذهب الجبال من أماكنها، ونبددها فتصير كالسحاب هباء منثورا، كما جاء في آية أخرى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105)[طه: 20/ 105] .
وتنظر أيها الإنسان إلى الأرض، فتراها ظاهرة بادية، لا جبال فيها ولا وديان، جميع الخلق على صعيد واحد، صافون صفوفا أمام ربهم، لا تخفى على الله منهم خافية.
فهذان حدثان كبيران: تسيير الجبال، وتسوية الأرض، مما يغير حال الدنيا.
والحدث المنتظر للخلائق جميعا أن الله يجمع الأولين والآخرين للحساب في موقف واحد، من غير أن يترك الله منهم أحدا، لا صغيرا ولا كبيرا، كما قال الله تعالى في آية أخرى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) [الواقعة:
56/ 49- 50] . فقوله تعالى: وَحَشَرْناهُمْ أي أقمناهم من قبورهم وجمعناهم لعرضة القيامة.
وفي هذا العرض يعرض البشر قاطبة أمام الله صفا واحدا، يأتون جميعا أحياء، كهيئتهم يوم خلقهم أول مرة في الدنيا، حفاة عراة، لا شيء معهم، لقد جاؤوا إلى ربهم كما خلقهم في المرة الأولى، وفي هذا تقريع وتوبيخ للكفار والمنكرين للبعث، وإثبات لقضية العرض والحساب على الله تعالى، لذا خاطب الله هؤلاء المنكرين بقوله: لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
، أي بل ظننتم أنه لا لقاء لكم مع الله، وأنه لا ميعاد لهذا اللقاء.
(1) عدّها وضبطها.
ثم يتلقى الناس الأحكام الصادرة في حقهم، في صحف تتطاير وكتب توزع، حتى تصل إلى أيدي أصحابها، فيضع الله (الكتاب) أي فتوضع كتب الناس التي أحصتها الحفظة لكل واحد، ويكون لكل إنسان كتاب واحد، يظهر فيه ما دوّن من أعمال الناس، من خير أو شر، صغير أو كبير، دون أن يترك الكتاب شيئا، ويقول المجرمون شاكين من دقة الإحصاء، لا من وجود ظلم أو حيف، يا حسرتنا ويا ويلنا على ما فرطنا وقصرنا من أعمال، فلا يترك هذا الكتاب ذنبا صغيرا ولا كبيرا إلا ضبطه وحفظه، فهو شامل لكل شيء، كما جاء في آية أخرى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)[ق: 50/ 17- 18] . والآية تدل على إثبات الصغائر والكبائر من الذنوب.
ويجد الناس ما عملوا في الدنيا مثبتا في كتابهم، من خير أو شر، صغير أو كبير، قال ابن عباس: الصغيرة: الضحك.
وليس في حكم الله أي ظلم لأحد من الخلق، لأن العدل الإلهي المطلق شامل للثواب والعقاب، حتى يكافأ المحسن، ويجازى المسيء، بل إن الله تعالى قد يغفر ويرحم، وإذا حكم، فإنه يعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله، ويكون جزاء الكفرة الخلود في نار جهنم. وأمر المغفرة والعقاب متروك لمشيئة الله تعالى ويتنازع الأمرين: العدل الإلهي المطلق، والرحمة الشاملة السابغة، لكن تغلب الرحمة الغضب كما
جاء في الحديث النبوي الثابت: «سبقت رحمتي غضبي» .