الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن الله هو الإله الواحد الذي لا شريك له، ولا معبود سواه، وهو ربّ العرش العظيم الذي ليس في المخلوقات أعظم منه، فالعرش أعظم المخلوقات، وما عداه فهو في ضمنه وفي قبضته.
فأجاب سليمان عليه السلام طير الهدهد عن دفاعه واعتذاره، بأننا سنتعرّف على مدى صحة قولك، أصادق في إخبارك هذا أم أنت كاذب في مقالتك، لتتخلّص من الإنذار والوعيد الذي أوعدتك به؟! اذهب أيها الهدهد بكتابي هذا إلى بلقيس وقومها، الذي يتضمن الدعوة إلى الإيمان بالله وحده، وألق هذا الكتاب إليهم، ثم ابتعد عنهم قريبا، وانظر ردّ الفعل، وماذا يقولون ويتشاورون ويتناقشون. فعمد الهدهد إلى كوّة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عند طلوعها، إشارة لمعنى عبادتها إياها، فدخل منها، ورمى الكتاب على بلقيس، وهي فيما يروى نائمة، ثم انتظر الجواب. وقامت بلقيس بجمع أهل مملكتها وأعيانهم، واستشارتهم في الأمر.
قصة الملكة بلقيس
في تأريخ القرآن الكريم ألوان من القصص المثيرة المحرّكة لمشاعر الإيمان، والتي تعدّ من حوافز العقيدة، لصلتها المباشرة بالفيض الإلهي، والإرادة الرّبانية، وأحداث قصة الملكة بلقيس مثل يحتذي من الدبلوماسية الرشيدة، وإعمال الفكر والأناة، والظفر بتحقيق النتائج السلمية، وصون البشرية من إراقة الدماء، وحفظ الأنفس، لأن البعد عن الأهواء والشهوات وعن الغطرسة يؤدي إلى اتّخاذ موقف الحكمة والسّداد، قال الله تعالى واصفا قصة بلقيس مع سليمان عليه السلام:
[سورة النمل (27) : الآيات 29 الى 37]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَاّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33)
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [النّمل: 27/ 29- 37] .
المعنى: قالت بلقيس لأعيان قومها ومستشاريها: أيها الأشراف، إني ألقي إلي كتاب كريم، مرسل من نبي الله سليمان، وهو ملك كريم، مضمونه: إن هذا الكتاب من النّبي سليمان، مبدوء ببسم الله الرّحمن الرّحيم، وفي البسملة دلالة على إثبات وجود الله وتوحيده، وقدرته ورحمته، وفيه نهي عن التّرفع الذي يحجب وصول الحقّ إلى النفوس، ويصرف عن اتّباع الأهواء، ويأمر باعتناق الإسلام، والإسلام كلمة جامعة لأصول الفضيلة، ومعالم الدين، والإقرار بوجود الله وتوحيده.
فأفتوني أيها المستشارون في هذا الأمر، ومضمون هذا الكتاب، ما كنت قاطعة أمرا ولا قاضية في شيء، حتى تحضرون وتشيرون فيه. وهذا موقف يدلّ على عقل ورشد، وحكمة في السياسة، وبعد نظر في الأمور.
فأجاب أشراف القوم (الملأ) : نحن أصحاب قوة جسدية وعددية، وذوو قوة وبأس، وشجاعة في الحروب، ومستعدّون للدفاع والقتال، فانظري في شأن إعلان الحرب على سليمان.
فقالت بلقيس لهم حين استعدّوا للصمود معها ومحاربة سليمان: إن الملوك إذا
(1) لا تتكبّروا علي.
(2)
منقادين.
(3)
تحضرون. [.....]
(4)
أصحاب نجدة وقوة في الحرب.
(5)
لا طاقة لهم.
(6)
ذليلون بالأسر.
دخلوا بلدة قهرا، خرّبوها ودمّروا ديارها وأموالها، وأذلّوا أعزّة أهلها بالقتل والأسر، ويفعلون ذلك وأمثاله، وهي عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير. وهذا من بلقيس تقدير للمخاطر، وتحذير من محاربة سليمان، ثم رجّحت اللجوء إلى الوسائل الودّية، وإلى المصالحة والمفاوضة، فقالت: إني أقوم بهذه التجربة، وهي إرسال هدية لسليمان، لاختباره أهو نبي أم ملك؟ ثم أنظر في جوابه بعدئذ، فلعله يقبل ذلك منا، ويكفّ عنا، أو يفرض علينا أتاوة مالية نرسلها له في كل عام، فنأمن جانبه. وكانت الهدية عظيمة مشتملة على ذهب وجواهر ولآلئ وغير ذلك من الغلمان والجواري بزيّ واحد، لتجرّبه في التفريق بينهم.
فلما وصلت الهدية إلى سليمان عليه السلام، لم ينظر إليها، وأعرض عنها، وقال منكرا عليهم: أتمدّونني بمال؟ ولا حاجة لي به، ولا أقبله بدلا من بقائكم على الشّرك وعبادة الكواكب.
إن الله أعطاني خيرا كثيرا مما أعطاكم، وهو النّبوة، والملك الواسع العريض، والمال الوفير، فلا حاجة لي بهديتكم، وهذا شأن سموّ النّبوة، وترفّع النّبي عن أعراض الدنيا الحقيرة. وإنما أنتم الذين تنقادون لمؤثرات الدنيا وزخارفها، وتنقادون للهدايا وسحرها، وتفرحون بها، ولست طالبا للدنيا الزائلة، وإنما أطالبكم بتوحيد الله والإقرار بوجوده، وترك عبادة الشمس، ولا أقبل منكم إلا الإسلام الذي هو الخضوع لله تعالى، أو الاحتكام إلى الحرب والقتال.
ارجع أيها المبعوث إليهم بهديتهم، فإننا سنأتينّهم بجنود أشدّاء لا طاقة لهم بقتالهم، ولنخرجنّهم من بلدتهم أذلّة، وهم مهانون مدحورون، إن لم يأتوا مسلمين منقادين لله ربّ العالمين.