الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقضية البعث سهلة مرجعها لقدرة الله تعالى الشاملة لكل شيء، فالله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، إذا أراد شيئا من بدء الخلق والإعادة وبعث الأموات والمعاد، فإنما يتم بالأمر به مرة واحدة، فيكون كما يشاء الله، دون عناء ولا تردّد، ولا بطء ولا تكلف، كما قال سبحانه: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)[القمر: 54/ 50] .
حال مؤمني مكة في بدء الدعوة
(المهاجرون إلى الحبشة) كان الصراع شديدا وعنيفا في مكة المكرمة في بدء الدعوة الإسلامية، بين كفار مكة الذين أقسموا أن الله لا يبعث من يموت، وبين مؤمني مكة المعارضين لهم، وهم الذين هاجروا إلى الحبشة، إيثارا للسلامة، وبعدا عن الأذى والاضطهاد، فالكفار أنكروا البعث والقيامة، والمؤمنون آمنوا بكل ما جاء به الإسلام، وصبروا على إيذاء المشركين، وضحوا بأنفسهم وأموالهم وديارهم من أجل إعلاء كلمة الله. وقد أشاد القرآن بهم في الآيات التالية:
[سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 44]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
«1» «2» «3» [النّحل: 16/ 41- 44] .
(1) لننزلنهم.
(2)
الحسنة: عامة في كل أمر مستحسن يناله ابن آدم، ويشمل النصر على العدو، وفتح البلاد وتحقيق الآمال.
(3)
كتب الشرائع.
الصحيح في سبب نزول هذه الآية: وَالَّذِينَ هاجَرُوا.. في المهاجرين إلى أرض الحبشة في المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية، لأن هجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية، وتشمل الآية كل من هاجر أولا وآخرا.
ومما لا شك فيه أن هؤلاء النخبة العالية من السابقين إلى الإسلام، لهم فضل كبير ومنزلة عظيمة، لمبادرتهم إلى الإيمان بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مبدأ الأمر، حيث قل الأتباع، وكثر الأعداء، واستبد الأقوياء بالضعفاء، وألجؤوهم إلى الفرار بدينهم، والهجرة من أوطانهم، انتصارا لمبدأ التوحيد، وإعلاء لكلمة الله، لذا استحقوا الخلود في تاريخ الأمة، وهو المراد بكلمة الحسنة عند بعض المفسرين، فهي لسان الصدق الباقي عليهم في غابر الدهر.
وكان جزاء هؤلاء المهاجرين عند ربهم إنزالهم في الدنيا منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم، وعلى العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب، فتكون الحسنة التي أنعم الله بها عليهم: هي المنزلة الطيبة، والمسكن المرضي، والموطن الأصلح وهو المدينة، كما قال ابن عباس والشعبي وقتادة. وقال مجاهد:
هي الرزق الطيب، قال ابن كثير: ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم، فعوضهم الله خيرا منها في الدنيا، فإن من ترك شيئا لله، عوضه الله بما هو خير له منه، وكذلك أصبحوا سادة العباد والبلاد. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ. أي:
وثوابهم في الآخرة على هجرتهم أعظم مما أعطاهم الله في الدنيا، لأن ثوابه هو الجنة ذات النعيم الدائم الذي لا يفنى، ولو علم الكفار أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين المهاجرين، في أيديهم، الدنيا والآخرة، لرغبوا في دينهم.
لقد استحق هؤلاء المهاجرون هذه المنزلة العالية لأنهم صبروا على أذى قومهم، وعلى مفارقة الوطن المحبوب، وهو حرم الله مكة، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في
سبيل الله، وعناء السفر ومتاعب الغربة، وتوكلوا على ربهم، وفوضوا أمورهم إليه، فأحسن عاقبتهم في الدنيا والآخرة.
وكان من بين هؤلاء المهاجرين إلى الحبشة أشراف المسلمين: عثمان بن عفان وزوجه رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعفر بن أبي طالب ابن عم الرسول، وأبو سلمة ابن عبد الأسود، في جماعة قريب من ثمانين، ما بين رجل وامرأة، صدّيق وصدّيقة رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثم رد الله تعالى على شبهة كفار قريش في بشرية الرسل، حيث استبعدوا أن يكون البشر رسولا من الله تعالى، فأعلمهم الله مخاطبا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أنه لم يرسل إلى الأمم إلا رجالا أوحى إليهم، ولم يرسل ملكا ولا غير ذلك. وقل لهم يا محمد:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي أسألوا أحبار اليهود والنصارى الذين لم يسلموا، فإنهم يخبرون بأن الرسل من البشر.
لقد أرسل الله الرسل بالحجج والدلائل التي تشهد لهم بصدق نبوتهم، وبالكتب المشتملة على التشريع الرباني، وهي الزّبر، أي الكتب، وكما أنزلنا الكتب إلى من قبلك يا محمد، أنزلنا إليك القرآن، لتبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم من الشرائع والأحكام والحلال والحرام وقصص الأنبياء والأمم الماضية التي أبيدت لتكذيبها الرسل، ومن أجل أن يتفكروا وينظروا في حقائق الكون وأسرار الحياة وعبر التاريخ، فيهتدون ويفوزون بالنجاة في الدارين.
وهذه حقيقة تشريعية وواقعية، فإن من آمن برسل الله الكرام، وبالكتب الإلهية المنزلة، وعمل بما أنزل الله، حظي بسعادة الدنيا والآخرة، وتلك هي النعمة العظمى والغاية الكبرى للإنسان العاقل.