الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحا صحيحا؟! فلا أحد أشد ظلما من افتراء الكذب على الله، ونسبة الشريك إليه فهم قوم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك.
وكان من لطف الله بهم: أن ملكهم، بعد أن هددهم وتوعدهم، أمهلهم.
لينظروا في أمرهم، لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، فوجدوها فرصة مواتية، وهربوا فرارا بدينهم من الفتنة.
قال ابن كثير: وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس: أن يفرّ العبد منهم خوفا على دينه، كما
جاء في حديث البخاري وأبي داوود عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن» .
ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع.
اعتزال أصحاب الكهف قومهم
حين يشتد الأذى بفئة التوحيد والإيمان، لا سبيل إلى النجاة إلا باعتزال القوم الكفرة المؤذين، عزلة مادية بترك الديار والبلاد، وعزلة معنوية بمخالفتهم في دينهم وترك معبوداتهم المزعومة، والاستقلال بعبادة الله وحده. وهذا كان منهج أهل الكهف، تركوا ديار قومهم، ولجؤوا إلى كهف في الجبل، فرارا بدينهم من الفتنة، وقد حمد الله تعالى فعلهم، وحفظهم، وجعلهم مثلا في التاريخ، قال الله تعالى واصفا هذه العزلة الإيمانية:
[سورة الكهف (18) : الآيات 16 الى 18]
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَاّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
«1» «2»
(1) أي ما ترتفقون به، أي تنتفعون من غداء وعشاء.
(2)
أي تميل عنه.
«1» «2» «3» «4» [الكهف: 18/ 16- 18] .
كان الخطاب في بدء قصة أهل الكهف للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الآيات اتجه الخطاب لأهل الكهف أنفسهم، والمعنى: واذكروا يا أهل الكهف حين تذاكرتم، فاعتزلتم قومكم عزلة مادية بمفارقة الأبدان والديار، وعزلة معنوية بمخالفة قومكم في مذهبهم واعتزالكم معبوداتهم غير عبادة الله تعالى. فالجئوا إلى الكهف: وهو الغار المتسع في الجبل، وأخلصوا العبادة لله تعالى، يبسط لكم ربكم من آثار رحمته الواسعة، فيستركم عن قومكم، ويسهل لكم من أموركم أمرا ترتفقون به وتنتفعون، أي إنكم قررتم أن تجعلوا الكهف مأوى وتتكلوا على الله تعالى، وحينئذ يبسط لكم ربكم رحمته، وينشرها عليكم.
ثم عاد الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وترى أيها الرسول وكل مشاهد الشمس حين طلوعها تميل عن كهفهم جهة اليمين، بتقليص شعاعها بارتفاعها، حتى لا يبقى منه شيء عند الظهيرة في ذلك المكان، وتراها تبتعد عنهم حين الغروب وتتركهم، لا تقربهم، وتعدل عنهم جهة الشمال، وهم في متسع الكهف ووسطه، فيأتيهم الهواء باردا لطيفا، أي إن الله تعالى حجب أشعة الشمس عنهم حتى لا تؤثر في رطوبة أبدانهم، ويكونوا في برودة لطيفة، وفي ذلك صلاح لأجسامهم، بإيجاد حاجب من الشمس من جهة الجنوب، ومن جهة الغرب، وهم في متسع الكهف ووسطه، أي إن الشمس تجيء من الكهف أول النهار عن يمين، وآخره عن شمال، فيكون باب
(1) أي تتركهم وتتجاوز عنهم.
(2)
متسع من الكهف.
(3)
أي بفناء الكهف ومساحته.
(4)
خوفا.
الكهف بمثابة وجه إنسان، ومكان الكهف مختلف فيه إما في واد قريب من أيلة في رأس خليج العقبة، أو عند نينوى في الموصل شمال العراق، أو في جنوب تركيا من بلاد الروم سابقا.
إن بقاء هؤلاء الفتية نياما في الكهف سنين عديدة آية من آيات الله العجيبة الكثيرة، الدالة على كمال قدرة الله وسعة علمه، وعلى أنه تعالى يصون المخلصين من عباده، وأن التوحيد دين الحق، وأن كل ما عداه من المذاهب والأديان باطل وضلال، ثم قال الله تعالى: مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ
…
أي إن من يوفقه الله تعالى للاهتداء بآياته وحججه، ويدله دلالة مؤدية إلى الحق، ويوفقه إلى ما يحبه ويرضاه، كأهل الكهف، فهو المهتدي إلى طريق الحق والصواب، الفائز بالحظ الأوفر في الدارين، ومن يضلل الله، أي يحجب عنه سبل الهداية والتوفيق لآيات الله، لسوء اختياره واستعداده، وإمعانه في الانحراف، فلن تجد له أبدا حليفا أو ناصرا معينا يرشده ويهديه إلى الخير وطرق الصلاح في الدنيا والآخرة، والمقصود: أن الله هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية والثبات على ملة التوحيد.
وتظنهم أيها الرائي المشاهد إذا رأيتهم أنهم أيقاظ لانفتاح أعينهم، وهم في الواقع نيام، لئلا يتسارع إليها البلى، فكأنهم ينظرون إلى من يشاهدهم، ونقلّبهم تقليبا دوريا مرة في ناحية اليمين، ومرة في ناحية الشمال، حتى لا تؤثر الأرض برطوبتها في أجسادهم، ولكي تتعرض جلودهم للهواء، وتسلم من التقرحات. إن الرائي يحسبهم أنهم أحياء في اليقظة، لشدة الحفظ الذي كان عليهم، وقلة التغير.
وكان كلبهم الذي تبعهم بإلهام من الله للحراسة باسطا ذراعيه بفناء الكهف أو ببابه يحرسهم، وهو كلب حقيقة، كان لصيد أحدهم فيما روي، أو لراع مروا عليه، فصحبهم.