الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حجبت الرؤية بسبب الحزن الشديد، ولكنه كظم غيظه، وحبس همه في نفسه وصدره، فقال أولاده له: والله لا تزال تذكر يوسف، حتى تقع في مرض مشرف على الهلاك، أو تكون من الهالكين الميتين. قال: لا أشكو بثّي أي ما انطوت عليه نفسي، وحزني إلا إلى الله وحده، وأعلم من الله ما لا تعلمون، أي أرجو منه كل خير وفضل. يا أولادي، اذهبوا إلى مصر، وتعرّفوا أخبار يوسف وأخيه بنيامين، ولا تيأسوا من رحمة الله وفرجه، إنه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون الجاحدون قدرة الله وحكمته ورحمته.
لقاء التّعارف الفريد
لقد نجحت خطة يوسف عليه السلام في استدراج مجيء إخوته وأسرته مرة بعد مرة، فهو بتعليم الله له وإرشاده، يسير على خطة محكمة، ومنهج متقن، وإخوته لجهلهم وتفريطهم وتآمرهم السابق على يوسف، لم يدركوا شيئا من هذه الخطة إلا في مرة ثالثة قدموا بها من فلسطين إلى مصر، وبعد أن رقّ قلب يوسف لاستعطافهم واسترحامهم، وحدثت المفاجأة العجيبة حيث عرّفهم يوسف بنفسه، وتم اجتماع الإخوة الاثني عشر في بيت يوسف وسلطانه، فاعترفوا بالذنب السابق، وقابلهم يوسف النّبي بالعفو والصفح عنهم، وتجدد الحبّ الأخوي، وتهيأ الجو لاستقبال الوالد يعقوب عليه السلام. قال الله تعالى واصفا هذا اللقاء الأخوي والتعارف الفريد في التاريخ:
[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 93]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
«1» «2»
(1) الهزال من شدّة الجوع. [.....]
(2)
بأثمان رديئة كاسدة.
«1» «2» «3» [يوسف: 12/ 88- 93] .
أمر يعقوب عليه السلام أن يذهب أولاده إلى أرض مصر التي جاؤوا منها، وتركوا أخويهم: بنيامين وروبيل، وأن يستقصوا أخبار يوسف وأخيه، فساروا من أرض الشام ووصلوها، فلما دخلوا على يوسف عليه السلام أرادوا اختباره وإثارة عواطفه بذكر سوء حالهم وتضرّعهم له، وكان أبوهم يرجح أن هذا العزيز في مصر هو يوسف، فقالوا له: أيها العزيز العادل الرحيم، قد مسّنا وأهلنا الضّرّ، أي الجوع والمسغبة التي كانوا بسبيلها، ووضع أخيهم الذي أهمّ أباهم وغمّ جميعهم، وجئنا ببضاعة مزجاة، أي قطعة من المال ناقصة غير تامة، يتسامح في أخذها، وهي قليلة لا تروج إلا بالدفع وطول العرض وحسنه. فإن الدراهم المدفوعة إذا كانت نازلة القدر تحتاج أن يعتذر معها ويشفع لها، فهي مزجاة، فأتم لنا الكيل كما كنت تفعل، فقد عودتنا الجميل، وتصدّق علينا بالزائد، إن الله يجزي المتصدقين، ويكافئهم على أعمالهم. وكانت الصدقة بالفرق بين الدراهم الجياد وهذه المزجاة. وقالوا هذا تجوّزا واستعطافا منهم في البيع.
فقال يوسف عليه السلام لما أخبروه بما مسّهم وأهلهم الضّرّ، واستعطفوه، فرقّ قلبه ورحمهم، قال لهم مستفهما عن استقباح فعلهم السابق بيوسف: هل علمتم قبح
(1) فضّلك الله علينا.
(2)
لا لوم عليكم.
(3)
مبصرا من شدّة السرور.
ما فعلتم بيوسف وأخيه بنيامين من التفريق بينهما في الصّغر، وألقيتم يوسف في البئر وعرضتموه للهلاك، وما عاملتموه به من معاملة خشنة قاسية، حال كونكم جاهلين قبح ما فعلتم، من عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم والقرابة، وذلك جهل المعصية، أو جهل الشباب وقلّة الحنكة، وكأنه ببشره وتبسّمه لقّنهم الجواب، وقرّبهم من الظّن القوي أنه يوسف.
فخاطبوه مستفهمين استفهام تقرير وتثبّت ومعرفة: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ فقد عرفوه بعلامات كانت فيه. فقال على الفور: أنا يوسف المظلوم العاجز الذي نصرني الله، وحفظني، وصيّرني إلى ما ترون، وهذا أخي بنيامين الذي فرّقتم بيني وبينه، فكان مظلوما أيضا كما كنت، ثم صار منعما عليه من قبل الله تعالى، كما ترون. قد أنعم الله علينا بالاجتماع، بعد الفرقة وبعد طول المدة، وأعزّنا في الدنيا والآخرة، إنه من يتق الله في ترك المعصية، ويصبر على المحن التي يتعرّض لها كالرّمي في البئر والسجن، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا في الدنيا والآخرة. وهذه شهادة من الله عز وجل بأن يوسف من المتقين الصابرين المحسنين.
أجابوه إعلانا للحق واعترافا له بالفضل: والله لقد فضّلك الله علينا، وآثرك بالعلم والحلم والخلق، والسلطان والسعة، والنّبوة والرّسالة، وإن كنا مخطئين مذنبين في حقّك، فقال يوسف بعد هذا الاعتذار والتوبة، معلنا الصفح والعفو عنهم: لا لوم ولا تعيير ولا توبيخ أو تأنيب لأحد منكم فيما صنعتم، يغفر الله لكم ذنوبكم وظلمكم، وهو أرحم الراحمين لمن تاب إليه وأناب إلى طاعته. وهذا مثل عال في العفو الجميل والصفح الكريم، فعل نبينا عليه الصلاة والسلام مثله مع أهل مكة بعد فتحها، مستشهدا بقول يوسف نفسه.
ثم جاءت معجزة القميص، قال يوسف لإخوته: اذهبوا بقميصي هذا، فألقوه على