الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وزروعهم وثمارهم، ولكنّ هؤلاء المكتسبين للدنيا، الذين لم يغن عنهم اكتسابهم، ليسوا في شيء، فإن السماوات والأرض وجميع الأشياء لم تخلق عبثا ولا سدى، وإنما خلقت بالحقّ، ولواجب مقصود، وأغراض لها نهايات، من عذاب ونعيم. وإن الساعة (القيامة) آتية على جميع أمور الدنيا، فلا تهتم يا محمد بأعمال قومك، فإن الجزاء لهم بالمرصاد، فاصفح عن أعمالهم، من غير عتب ولا تعرّض، وهذا يقتضي مهادنة.
ثم آنس الله نبيّه وسرّى عنه في آخر الآيات بأن الله تعالى يخلق ما شاء لمن شاء، ويعلم تعالى وجه الحكمة في ذلك، لا هذه الأوثان التي تعبدونها. وهذا تقرير للمعاد، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة (القيامة) فإنه سبحانه خالق كل شيء، عليم بكل أجزاء الأجساد المتفتتة، والجميع صائرون إليه، محاسبون بين يديه.
توجيهات إلهيّة للنّبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الدّعوة
اقتضت حكمة الله وخطّته أن يصفح النّبي صلى الله عليه وسلم صفحا جميلا عن أذى قومه ويعاملهم معاملة سلمية وادعة آمنة، بالرغم من كثرة المضايقات، واستدامة الإيذاء والإضرار، ومقابل هذا الصفح الجميل: إنعام الله على نبيّه بألوان النّعم الكثيرة المتوّجه بإنزال السّبع المثاني (الفاتحة) والقرآن العظيم عليه، فهو المعجزة الخالدة والمفخرة الدائمة، قال الله تعالى واصفا هذه النّعم وواضعا توجيهات للنّبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في تبليغ دعوته:
[سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 93]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93)
«1»
(1) هي الفاتحة، التي تثنى وتكرّر قراءتها.
«1» «2» «3» [الحجر: 15/ 87- 93] .
يمتن الله تعالى على نبيّه، فيذكر له، تالله لقد أعطيناك وأنزلنا عليك أيها الرسول السّبع المثاني والقرآن العظيم. والسّبع المثاني على الراجح: هي الفاتحة المكونة من سبع آيات، تثنى وتكرر في كل ركعات الصلاة، والبسملة هي الآية السابعة، وقد خصّ الله أهل القرآن بها.
أخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّ القرآن هي السّبع المثاني والقرآن العظيم» . وخرّج التّرمذي من حديث أبي هريرة بلفظ آخر: «الحمد لله: أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والسّبع المثاني» .
وترتيبا على هذا العطاء الإلهي السّخي العظيم لا تطمح أيها الرسول إلى ما متّعنا به أصنافا من الناس: وهم الأغنياء بزينة الحياة الدنيا ومتعها، فمن وراء ذلك عقاب شديد، واستغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية، وفاخر بما أوحي إليك، وقدّر عظمة نعمة الله عليك، ولا تنظر إلى الدنيا وزينتها، ولا تتأسّف على المشركين إذا لم يؤمنوا، لتقوية الإسلام والمسلمين، ولا لهلاكهم، وألن جانبك وتواضع للمؤمنين، ولا تجافهم ولا تقس عليهم، واصرف وجهك وعنايتك لمن آمن بك، كما جاء في آية أخرى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 3/ 159] .
ثم أمر الله نبيّه بإعلان مهمته وهي الإنذار المبين، فقال له: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
(1) تواضع.
(2)
هم في قول: أهل الكتاب الذين فرقوا دينهم، وجزءوه أعضاء، آمنوا ببعض وكفروا ببعض.
(3)
أي جعلوه أقساما وأعضاء.
أي قل يا محمد للناس: إني منذر ومخوف من عذاب أليم شديد الوجع، أنذر كل من كذّب برسالتي وأعرض عن دعوتي، وتمادى في غيّه وضلاله، حتى لا يتعرّض لانتقام وتعذيب من الله كما فعل بالأمم المتقدمة.
وحدّد الرسول صلى الله عليه وسلم جهة الإنذار وعيّن المنذرين، وهم أهل الكتاب الذين فرّقوا دينهم، واقتسموا القرآن إلى أجزاء، فآمنوا ببعضه الموافق للتوراة والإنجيل، وكفروا ببعضه المخالف لهما، فاقتسموه إلى حقّ وباطل، وهم أيضا القرشيّون الذين اقتسموا طرق مكة، يصدّون الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعددهم حوالي أربعين، أو ستة عشر رجلا، بعثهم الوليد بن المغيرة أيام موسم الحج، فاقتسموا طرق مكة يقولون لمن يسلكها: لا تغتروا بالخارج منّا، والمدّعي للنّبوة، فإنه مجنون، وكانوا ينفّرون الناس عنه واصفين إياه: بأنه ساحر، أو كاهن، أو شاعر، فأنزل الله تعالى بهم خزيا، فماتوا شرّ ميتة، هؤلاء الفريقان: الكتابيّون والقرشيّون هم الذين جعلوا القرآن عضين، أي أجزاء متفرّقة، آمنوا ببعض وكفروا ببعض. وجعلوا القرآن سحرا وشعرا وكهانة، أي صيّروه بألسنتهم ودعواهم.
وكان جزاؤهم وعيدا محضا، يأخذ الله كل أحد منهم بحسب جرمه وعصيانه، يسألهم الله سؤال توبيخ وتأنيب عن أقوالهم وأعمالهم، ويجازيهم على أفعالهم الجزاء التّام. فالكافر يسأل عن (لا إله إلا الله) وعن الرّسل، وعن كفره وقصده. وكذلك يسأل المؤمن العاصي عن تضييع القرآن، ويسأل الإمام عن رعيّته، وكل مكلف عما كلّف القيام به، فيكون الضمير في قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) ضميرا عامّا يشمل جميع الناس المؤمنين والكافرين، كلّ بحسب جرمه وعمله. ويكون الإنذار أيضا لجميع الناس، سواء من اقتسم الكتاب الإلهي وجزّأه، فآمن ببعضه وكفر بالبعض الآخر، ومن ضيّع القرآن، فأخذ ببعضه وترك البعض الآخر.