الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِبَادٍ، وَذَرُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ". [م 1522، ت 1223، جه 2176، حم 3/ 307، ن 4495]
(47) بَابُ مَنِ اشْترَى مُصَرَّاة فَكَرِهَهَا
3443 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِى الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ، وَلَا يَبِيعْ (1) بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تُصَرُّوا
===
لباد، وذروا) أي: دعوا واتركوا (الناس يرزق الله) تعالي (بعضهم من بعض).
(47)
(بابُ مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً فَكَرِهَهَا)
قال الشوكاني (2): قال الإِمام الشافعي رحمه الله: التصرية: ربط أخلاف الشاة أو الناقة، وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر فيظن المشتري أن ذلك عادتها، فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها، وأصل التصرية: حبس الماء، يقال منه: صريت الماء إذا حبسته، قال أبو عبيدة وأكثر أهل اللغة: التصرية: حبس اللبن في الضرع (3) حتى يجتمع.
3443 -
(حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تلقوا الركبان للبيع، ولا يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا تصروا)(4) - بضم أوله وفتح الصاد المهملة وضم الراء المشددة- من صريت اللبن في الضرع إذا جمعته، وظن بعضهم أنه من صررت، فقيَّده بفتح أوله وضم ثانيه. قال في "الفتح" (5): والأول أصح،
(1) في نسخة: "لا يبع".
(2)
"نيل الأوطار"(3/ 596).
(3)
في الأصل: "اللغة"، وهو خطأ.
(4)
وجمع ابن قتيبة في "مختلف الحديث"(ص 268، 269) بينه وبين "الخراج بالضمان". (ش).
(5)
"فتح الباري"(4/ 362).
الإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ". [خ 2150، م 1515، ن 6079]
===
قال: لأنه لو كان من صررت يقال: مصرورة أو مصررة لا مصرَّاة، على أنه قد سمع الأمران في كلام العرب، ثم قال: وضبطه بعضهم بضم أوله وفتح ثانيه بغير واو على البناء للمجهول، والمشهور الأول.
(الإبل والغنم) وإنما اقتصر على ذكرهما دون البقر؛ لأن غالب مواشيهم كانت من الإبل والغنم، والحكم واحد خلافًا لداود (فمن ابتاعها بعد ذلك) أي: بعد التصرية (فهو بخير النظرين) أي: فهو مخير بين الرأيين يختار أيهما أنظر له.
(بعد أن يحلبها) ظاهره أن الخيار لا يثبت إلَّا بعد الحلب، والجمهور على أنه إذا علم بالتصرية ثبت له الخيار على الفور لو لم يحلب، لكن لما كانت التصرية لا تعرف غالبًا إلَّا بعد الحلب جعل قيدًا في ثبوت الخيار (فإن رضيها) أي: المصراة (أمسكها) عنده (وإن سخطها) ولم يرض بها (ردها) إلى البائع (1)(وصاعًا من تمر).
وقد استدل بالتنصيص على الصاع من التمر على أنه لا يجوز رد اللبن، ولو كان باقيًا على صفته لم يتغير لذهاب طراوته واختلاطه بما تجدد عند المشتري، انتهى.
قلت: وتعقب بأن المشتري لو حلب المصراة بعد ختم الإيجاب والقبول على الفور، وعلم بكونها مصراة، فحينئذ لم يذهب طراوته، ولم يختلط بما تجدد عند المشتري، فحينئذ يلزم البائع قبوله عند المستدل.
(1) بذلك قالت الأئمة الثلاثة، وهو رواية عن أبي يوسف، وعندنا لا يرد بذلك، صرَّح به الشامي (7/ 224)، ورجح الرجوع بالنقصان على المختار، كذا رجح ابن الهمام. "فتح القدير"(5/ 184)، وصاحب "البحر"(6/ 47). (ش).
3444 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ وَهِشَامٍ وَحَبِيبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، إِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ طَعَامٍ لَا سَمْرَاءَ". [م 1524، ت 1252، ن 4489، جه 2239، حم 2/ 248]
3445 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَخْلَدٍ التَّمِيمِيُّ، نَا الْمَكِّيُّ
===
3444 -
(حدثنا موسى بن إسماعيل، نا حماد، عن أيوب وهشام وحبيب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اشترى شاة مصراة، فهو بالخيار ثلاثة أيام).
فيه دليل على امتداد الخيار هذا المقدار، فتقيد بهذه الرواية الروايات القاضية بأن الخيار بعد الحلب على الفور، كما في قوله:"بعد أن يحلبها"، وإلى هذا ذهب الشافعي، وذهب بعض الشافعية إلى أن الخيار على الفور، وحملوا رواية الثلاث على ما إذا لم يعلم أنها مصراة قبل الثلاث.
قالوا: وإنما وقع التنصيص عليها؛ لأن الغالب أنه لا يعلم بالتصرية فيما دونها، واختلفوا في ابتداء (1) الثلاث، فقيل: من وقت بيان التصرية، وإليه ذهبت الحنابلة، وقيل: من حين العقد، وبه قالت الشافعية، وقيل: من وقت التفرق (إن شاء ردها وصاعًا من طعام لا سمراء) أي: لا يكون حنطة.
3445 -
(حدثنا عبد الله بن مخلد) - بسكون المعجمة- ابن خالد بن عبد الله (التميمي)(2) أبو محمد، ويقال: أبو بكر النيسابوري النحوي، لم يتعرض أحد من أهل الرجال لجرحه وتعديله، لا في "التقريب"، ولا في "تهذيب التهذيب"، ولا في "الخلاصة"، ولا في "الكاشف"، (نا المكي
(1) وقريب منه ما قال في "الفتح"(4/ 362). (ش).
(2)
انظر ترجمته في: "تهذيب الكمال"(4/ 282) رقم (3545).
- يَعْنِى ابْنَ إِبْرَاهِيمَ -، نَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِى زِيَادٌ، أَنَّ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "مَنِ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً احْتَلَبَهَا (1) ، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِى حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ". [خ 2151، م 1524]
3446 -
حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، نَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، نَا صَدَقَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ التَّيْمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "مَنِ ابْتَاعَ مُحَفَّلَةً
===
- يعني ابن إبراهيم -، نا ابن جريج، حدثني زياد) بن سعد بن عبد الرَّحمن
الخرساني (أن ثابتًا) ابن عياض الأحنف (مولى عبد الرحمن بن زيد) بن
الخطاب (أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اشترى غنمًا
مصراة، احتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر)، ظاهره أن صاع التمر في مقابل المصراة، سواء (2) كانت واحدة أو أكثر، لقوله:"من اشترى غنمًا"؛ لأن الغنم اسم جنس، ثم قال:"وفي حلبتها صاع من تمر"، ونقل ابن عبد البر (3)، عمَّن استعمل الحديث، وابن بطال عن أكثر العلماء، وابن قدامة عن الشافعية، والحنابلة وعن أكثر المالكية: يردُّ عن كل واحدة صاعًا، وقال المازري: من المستبشع أن يغرم متلف لبن ألف شاة كما يغرم متلف لبن شاة واحدة، قاله العيني (4).
3446 -
(حدثنا أبو كامل، نا عبد الواحد، نا صدقة بن سعيد، عن جميع بن عمير التيمي قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ابتاع محفلة) أي: مصراة، والتحفيل: هو التجميع. قال أبو عبيد: سميت
(1) في نسخة: "فاحتلبها".
(2)
هو المرجح عند المالكية، كما في "الشرح الكبير"(3/ 116). (ش).
(3)
تحرف في الأصل: "ابن عبد البر" بـ "ابن عبد الرحمن".
(4)
"عمدة القاري"(8/ 454).
فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا مِثْلَ، أَوْ: مِثْلَىْ لَبَنِهَا قَمْحًا". [جه 2240]
===
بذلك لكون اللبن يكثر في ضرعها، وكل شيء كثرته فقد حفلته، تقول: ضرع حافل، أي: عظيم، واحتفل القوم إذا كثر جمعهم، ومنه سمي المحفل (فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها مثل، أو) للشك من الراوي (مثلي لبنها) الذي كان وقت العقد في الضرع (قمحًا) أي: حنطة.
قال الحافظ (1): وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جمهور أهل العلم، وأفتى به ابن مسعود وأبو هريرة، ولا مخالف لهم من الصحابة، وقال به من التابعين ومن بعدهم من لا يحصى عدده، ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلًا أو كثيرًا، ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد أم لا.
قال العيني (2): قلت: أبو حنيفة غير منفرد بترك العمل بحديث المصراة، بل مذهب الكوفيين وابن أبي ليلى ومالك في رواية مثل مذهب أبي حنيفة.
وقال العيني أيضًا: وأقوى الوجوه في ترك العمل بها مخالفتها للأصول من ثمانية أوجه: أحدها: أنه أوجب الرد من غير عيب ولا شرط.
قلت: وهذا إشارة إلى الحديث المتفق عليه بطريق القاعدة الكلية التي اتفقت عليه الأمة، بأن المتبايعين بالخيار بين الرد والقبول ما لم يتفرقا، سواء كان التفرق بالأبدان عند من يقول به، أو تفرق بالكلام عند القائل به، فإذا تفرقا لم يكن لأحد منهما الخيار، إلَّا إذا اشترط الخيار أحدهما، فيكون الخيار له إلى ثلاثة أيام.
الثاني: أنه قدر الخيار بثلاثة أيام، وإنما يتقيد بالثلاث خيار الشرط. يعني أن الخيار بالثلاثة مقيد بخيار الشرط بهذا الحديث، وههنا ليس بشرط.
(1)"فتح الباري"(4/ 364).
(2)
"عمدة القاري"(8/ 448 - 451).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
الثالث: أنه أوجب الرد بعد ذهاب جزء من المبيع.
الرابع: أنه أوجب البدل مع قيام المبدل.
الخامس: أنه قدره بالتمر أو بالطعام، والمتلفات إنما تضمن بأمثالها أو بقيمتها بالنقد.
حاصله: أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (1) وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (2)، وهذه الآيات تحكم بأن ضمان المتلفات والعدوانات في المثليات وذوات القيم بالمثل. وفي هذا الحديث حكم بخلاف ذلك.
السادس: أن اللبن من ذوات الأمثال، فجعل ضمانه في هذا الخبر بالقيمة.
السابع: أنه يؤدي إلى الربا فيما إذا باعها بصاع تمر.
الثامن: أنه يؤدي إلى الجمع بين العوض والمعوض.
وقال هذا القائل أيضًا: لم ينفرد أبو هريرة برواية هذا الأصل، فقد أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنه وأخرجه الطبراني من وجه آخر عنه، وأبو يعلى من حديث أنس، والبيهقي في "الخلافيات" من طريق عمرو بن عوف المزني، وأخرجه أحمد من رواية رجل من الصحابة لم يسم، وقال ابن عبد البر: هذا الحديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل.
قلت: أما حديث ابن عمر رضي الله عنه فرواه أبو داود من رواية جميع بن عمير التيمي. قال الخطابي: ليس إسناده بذاك، وقال البخاري: فيه نظر، وذكره ابن حبان في "الضعفاء"، وقال: كان رافضيًا يضع الحديث،
(1) سورة البقرة: الآية 194.
(2)
سورة النحل: الآية 126.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وقال ابن نمير: كان من أكذب الناس، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، وقال أبو حاتم: كوفي صالح الحديث، من عنق الشيعة.
وأما حديث أنس رضي الله عنه فأخرجه أبو يعلى، وفي سنده إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف، وأخرجه [البيهقي] أيضًا من رواية إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن أنس بن مالك، والمحفوظ أنه مرسل. وأما حديث رجل من الصحابة، فأخرجه أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إن هذا القائل قد تصدى للجواب عما قالت الحنفية في هذا الموضع، قال: فما قالوا إن هذا -يعني حديث المصراة- خبر واحد لا يفيد إلَّا الظن، وهو مخالف لقياس الأصول المقطوع به، فلا يلزم العمل به.
ثم قال: وتعقب بأن التوقف في خبر الواحد إنما هو في مخالفة الأصول، لا في مخالفة قياس الأصول، وهذا الخبر إنما خالف قياس الأصول بأن الأصول: الكتاب والسنَّة والإجماع والقياس، والكتاب والسنَّة في الحقيقة هما الأصل، والآخران مردودان إليهما، فالسنَّة أصل، والقياس فرع، فكيف يرد الأصل بالفرع؟ ! بل الحديث الصحيح أصل بنفسه.
قلت: قوله: وهو مخالف لقياس الأصول، لم يقل به الحنفية كذا، وكيف ينقل عنهم ما لم يقولوا أو قالوا؟ ! فينقل عنهم بخلاف ما أرادوا منه لعدم التروي وعدم إدراك التحقيق فيه، فكيف يقال: هو مخالف لقياس الأصول، والحال أن القياس أصل من الأصول، لأن الحنفية عدوا القياس أصلًا رابعًا على ما في كتبهم المشهورة، فيكون معنى ما نقلوا [من] هذا، وهو مخالف لأصل الأصول وهو كلام فاسد؟ ! .
وقوله: والقياس فرع، كلام فاسد أيضًا؛ لأنه عد أصلًا رابعًا، فكيف يقول: إنه فرع حتى يترتب عليه قوله؟ ! فكيف يرد الأصل بالفرع؟ ! ثم إنه نقل عن ابن السمعاني من قوله: متى ثبت الخبر صار أصلًا من الأصول، ولا يحتاج
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
إلى عرضه على أصل آخر؛ لأنه إن وافقه فذاك، وإن خالفه لم يجز رد أحدهما؛ لأنه رد للخبر، وهو مردود باتفاق؟ انتهى.
قلت: ثم نقل عن ابن السمعاني من قوله: والأولى عندي في هذه المسألة تسليم الأقيسة، لكنها ليست لازمة؛ لأن السنَّة الثابتة مقدمة عليها، وعلى تقدير التنزل فلا نسلم أنه مخالف لقياس الأصول؛ لأن الذي ادعوه عليه من المخالفة بينوها بأوجه:
أحدها: أن المعلوم من الأصول أن ضمان المثليات بالمثل، والمتقومات بالقيمة، وههنا إن كان اللبن مثليًا فليضمن اللبن، وإن كان متقومًا فليضمن بأحد النقدين، وقد وقع هنا مضمونًا بالتمر، فخالف الأصل، والجواب منع الحصر، فإن الحر يضمن في ديته بالإبل، وليس مثلًا له ولا قيمة، [و] أيضًا فضمان المثل بالمثل ليس مطردًا، فقد يضمن المثل بالقيمة إذا تعذرت المماثلة، كمن أتلف شاةً لبونًا، كان عليه قيمتها، ولا يجعل بإزاء لبنها لبنًا آخر لتعذر المماثلة، انتهى.
قلت: قوله: فلا نسلم أنه مخالف لقياس الأصول إلى آخره، غير مسلم؛ لأن مخالفته للقاعدة الأصلية ظاهرة، وهي أن ضمان المثل بالمثل، وضمان المتقوم بالقيمة، وهذه القاعدة مطردة في بابها، وضمان المثل بالقيمة عند التعذر خارج عن باب القاعدة المذكورة، فلا يرد عليه الاعتراض بذلك؛ لأن باب التعذر مستثنى عنها، والتعذر تارة يكون بالاستحالة كما في ضمان الحر بالإبل، وتارة يكون بالعلم كتعذر المماثلة في ضمان لبن الشاة اللبون.
وأيضًا في مسألة الشاة اللبون، اللبن جزء من أجزائها فيدخل في ضمان الكل، ودفع الصالح من التمر أو غيره مع اللبن في المصراة إنما كان في وقت العقوبة بالأموال في المعاصي (1).
(1) كذا في الأصل، وفي "عمدة القاري":"بالمعاصي".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن بيع المحفلات خِلابة، والخلابة حرام، فكان من فعل هذا وباع صار مخالفًا لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وداخلًا فيما نهى عنه، فكانت عقوبته في ذلك أن يجعل اللبن المحلوب في الأيام الثلاثة للمشتري بصاع من تمر، ولعله يساوي آصعًا كثيرة، ثم نسخت العقوبات بالأموال في المعاصي (1)، وردت الأشياء إلى ما ذكرناه من القاعدة الأصلية.
ثم ذكر ابن السمعاني عن الحنفية أنهم قالوا: إن القواعد تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف، وذلك مختلف، وقد قدر ههنا بمقدار واحد وهو الصاع، فخرج عن القياس، والجواب: منع التعميم في المضمونات، كالموضحة، فأرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر، والغرة مقدرة في الجنين في اختلافه، انتهى.
قلت: لا نسلم منع التعميم في بابه كما ذكرنا، وما مثل به على وجه الإيراد على القاعدة غير وارد؛ لأنا قلنا: إن الذي يفعل من ذلك عند التعذر خارج من باب القاعدة، غير داخل فيها حتى يمنع اطراد القاعدة.
ثم ذكر عنهم أيضًا: أن اللبن التالف إن كان موجودًا عند العقد، فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة، وذلك مانع من الرد، فقد حدث على ملك المشتري، فلا يضمنه، وإن كان مختلطًا فما كان منه موجودًا عند العقد، وما كان حادثًا لم يجب ضمانه.
والجواب أن يقال: إنما يمتنع الرد بالنقص، إذا لم يكن لاستعلام العيب وإلَّا فلا يمتنع، وههنا كذلك، قلت: الذي قالوه كلام واضح صحيح، والجواب الذي أجابه ليس بشيء، فهل يرضى أحد أن يرد هذا
(1) كذا في الأصل، وفي "عمدة القاري":"بالمعاصي".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
الكلام بمثل هذا الجواب؟ وليس العجب منه، وإنما العجب من الذي ينقله في تأليفه ويرضى به.
ثم ذكر عنهم فيما قالوا: بأنه خالف الأصول في جعل الخيار [فيه] ثلاثًا، مع أن خيار العيب لا يقدر بالثلاث، وكذا خيار المجلس عند من يقول به، وخيار الرؤية عند من يُثبته، ثم أجاب: بأن حكم المصراة انفرد بأصله عن مماثله، فلا تستغرب أن ينفرد بوصف زائد على غيره، انتهى.
قلت: لانفراده بأصله عن مماثله، قلنا: إنه منسوخ كما ذكرنا فيما مضى، ثم ذكر عنهم أنهم قالوا: إنه يلزم من الأخذ به الجمع بين العوض والمعوض، ثم أجاب: بأن التمر عوض عن اللبن لا عن الشاة. قلت: ليس دفع التمر الإجزاء لما ارتكب من العصيان حين كانت العقوبة بالأموال في المعاصي.
ثم ذكر عنهم بأنه مخالف لقاعدة الربا فيما إذا اشترى شاة بصاع، فإذا استرد معها صاعًا، فقد استرجع الصالح الذي هو الثمن، فيكون قد باع شاة وصاعًا بصاع، والجواب: أن الربا إنما يعتبر في العقود، لا في الفسوخ، بدليل أنهما لو تبايعا ذهبًا بفضة لم يجز أن يتفرقا قبل القبض، فلو تقابلها (1) في هذا العقد (2) بعينه جاز التفرق قبل القبض، انتهى.
قلت: ذكره هذه المسألة تأكيدًا لما قاله من الجواب لا يفيده؛ لأن بالإقالة صار العقد كأنه لم يكن، وعاد كل شيء إلى أصله، فلا يحتاج إلى أن يقال: جاز التفرق قبل القبض.
ثم ذكر عنهم بأنهم قالوا: يلزم منه ضمان الأعيان مع بقائها فيما إذا كان اللبن موجودًا، والأعيان لا تضمن بالبدل إلَّا مع فواتها كالمغصوب.
(1) كذا في الأصل، وفي "عمدة القاري" (8/ 450):"تقابلا"، لعلهما تصحيف، والظاهر بدله:"تقايلا".
(2)
في الأصل: "القبض"، وفي "عمدة القاري":"العقد".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
والجواب: أن اللبن وإن كان موجودًا، لكنه تعذر رده لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد، وتعذر تمييزه، فأشبه الآبق بعد الغصب، فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذر الرد، انتهى.
قلت: لما تعذر رد اللبن لاختلاطه باللبن الحادث صار حكمه حكم العدم، فيضمن بالبدل، كالعين المغصوبة إذا هلكت عند الغاصب، وتشبيهه بالعبد الآبق غير صحيح؛ لأنه إذا تعذر رده صار في حكم الهالك، فتعين القيمة.
ثم نقل عنهم بأنه يلزم منه إثبات الرد بغير عيب ولا شرط، ثم أجاب: بأنه لما رأى ضرعًا مملوءًا لبنًا، ظن أنه عادة لها، فكان البائع شرط له ذلك، فتبين له الأمر بخلافه، فثبت له الرد لفقد الشرط المعنوي، انتهى.
قلت: البيع بمثل هذا الشرط فاسد إن كان لفظيًا، فبالمعنوي بالأولى، ولا يصح من الشروط إلَّا شرط الخيار بالنص الوارد فيه، وأما العيب فإذا ظهر فإنه يرده، ولا يحتاج فيه إلى الشرط، انتهى كلام العيني
وكتب مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه رحمه الله: قوله: "باب من اشترى شاة مُصَرَّاة"
…
إلخ. الروايات المذكورة فيه مخصوصة عندنا بمواردها في ذلك، لمخالفتها النصوص الآخر، والقواعد الكلية، وكلمة من ليس نصًا في العموم الجنسي أو النوعي، فكثيرًا ما يستعمل في الشخصية، فقد ثبت في موضعه أن الموصول كثيرًا ما يستعمل للعهد، وإن كان استعماله للعموم أيضًا، واستعمال ألفاظ الشرط في الموصولات شائع، والشافعي رحمه الله إن كان مقرًا بأنها مخالف الكليات إلَّا أنه ذهب إلى [أن] العموم فيها نوعي، فلا يختص بما ورد فيه، بل يعلى الحكم في مثله من الجزئيات الواردة بعده صلى الله عليه وسلم، ونحن لما قلنا بشخصيتها قصرناها على تلك الجزئيات الواقفة في وقته فقط.