الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثاني في الاحتجاج بقول الصحابي كنا نفعل
[م-715] قول الصحابي: (كنا نفعل) أو (كانوا يفعلون)، كقول أم عطية رضي الله عنها:(كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئًا). هل يكون له حكم الرفع؟ أو يكون موقوفًا؟ وهل يكون حكاية لإجماع؟ أو حكاية لأكثرهم؟
هذه مسألة اختلف فيها أهل الأصول وبُحثت في مصطلح الحديث، وسوف أشير إلى مقاصد كلامهم بإيجاز .. والأقوال فيها كالآتي:
قيل: إنه مرفوع مطلقًا -يعني له حكم الرفع- قال الحافظ: «وهو الذي اعتمده الشيخان في صحيحيهما، وأكثر منه البخاري»
(1)
.
وقيل: موقوف مطلقًا.
وقيل: التفصيل بين أن يضيفه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مرفوعًا، أولا يضيفه فلا يكون له حكم الرفع، ونسبه الحافظ إلى الجمهور
(2)
.
وقيل في التفصيل: الفرق بين أن يكون ذلك الفعل مما لا يخفى غالبًا فيكون
(1)
النكت (2/ 515).
(2)
المرجع السابق.
مرفوعًا، أو يخفى فيكون موقوفًا.
وعلى تقدير كونه موقوفًا فهل هو من قبيل نقل الإجماع أو لا؟
فجزم بعضهم بأنه إن كان في اللفظ ما يشعر به مثل: كان الناس يفعلون كذا فمن قبيل الإجماع وإلا فلا.
هذه عمدة الأقوال في المسألة. وأرجحها قول الجمهور بأنه: إن أضيف إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهو على الصحيح له حكم الرفع، وأقوى دليل في ذلك:
(1618 - 80) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال عمرو: أخبرني عطاء سمع جابرًا رضي الله تعالى عنه، قال: كنا نعزل والقرآن ينزل.
ورواه مسلم
(1)
. وزاد: قال سفيان: «لو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن» .
(2)
.
قلت: الظاهر من حال الصحابة رضي الله عنهم، وحرصهم على إصابة الحق،
(1)
صحيح البخاري (5208)، ومسلم (1440).
(2)
الفتح (10/ 382).
والسؤال عنه أنهم لا يقدمون على أمر من أمور الدين والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم إلا إذا كان عالمًا به، فيكون من السنة التقريرية.
والذين ردوه إنما حجتهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلع على ذلك حتى يكون إقرارًا. وعلى التسليم أنه لم يطلع، فقد اطلع الله سبحانه وتعالى، والزمن زمن تشريع، فسكوت الوحي عن ذلك إقرار من الله سبحانه لهذا الفعل.
وأقوى دليل للمانعين من الاحتجاج:
(1619 - 81) ما رواه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن معمر بن أبي حبيبة، عن عبيد بن رفاعة بن رافع، عن رفاعة بن رافع، وكان عقبيًا بدريًا قال:
كنت عند عمر، فقيل له: إن زيد بن ثابت يفتي الناس برأيه في المسجد، في الذي يجامع ولا ينزل. فقال: أعجل به، فأتى به، فقال: يا عدو نفسه أوقد بلغت أن تفتي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيك؟ ! قال: ما فعلت، ولكن حدثني عمومتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أي عمومتك؟
قال: أبي بن كعب، وأبو أيوب، ورفاعة بن رافع. فالتفت إلي: ما يقول هذا الغلام؟
فقلت: كنا نفعله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسألتم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كنا نفعله في عهده فلم نغتسل، قال: فجمع الناس، واتفق الناس على أن الماء لا يكون إلا من الماء إلا رجلين، علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، قالا: إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل. فقال علي: يا أمير المؤمنين، إن أعلم الناس بهذا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى حفصة، فقالت: لا علم لي. فأرسل إلى عائشة فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. قال: فتحطم عمر -يعني: تغيظ- ثم قال:
لا يبلغني أن أحدًا فعله ولا يغتسل إلا أنهكته عقوبة
(1)
.
[في إسناده عبيد بن رفاعة لم يوثقه إلا ابن حبان والعجلي]
(2)
.
وجه الشاهد من القصة:
أن الصحابة أو كثيرًا منهم، وهم من أهل بدر، كانوا يرون أن الماء من الماء وكان بعضهم يفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يأت الوحي بإنكار فعلهم، وما خالفهم من الصحابة إلا رجلان وعائشة، وكان الصواب مع هذا العدد القليل. ثم إن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين حين قال له رفاعة: كنا نفعله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتبر ذلك حجة، واكتفى به، بل قال: هل سألتم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلم ير عمر فعل الشيء في عهده صلى الله عليه وسلم زمن التشريع حجة إلا إذا علم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اطلع عليه.
والذي أرى أن هذه القصة ليس فيها حجة؛ لأن قوله: (كنا نفعله على عهد
(1)
المسند (5/ 115).
(2)
والحديث أخرجه أحمد (5/ 115) من طريق ابن إدريس وزهير.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 85)، وعبد الله بن أحمد في زوائده (5/ 115)، والطحاوي (1/ 58) عن عبد الأعلى، ثلاثتهم عن ابن إسحاق به.
وفي إسناده عبيد بن رفاعة لم يوثقه إلا ابن حبان والعجلي.
وتابع ابن لهيعة محمد بن إسحاق، فأخرجه الطحاوي (1/ 58) من طريق أبي عبد الرحمن المقرئ قال: حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب به.
والراوي عن ابن لهيعة عبد الله بن يزيد المقرئ، وهو ممن أمسك عن الرواية عن ابن لهيعة لما ظهر لهم اختلاطه، ولذا عُدَّ مع العبادلة ممن جعلت روايتهم عن ابن لهيعة أعدل من غيرها.
كما تابعهما الليث بن سعد، واختلف على الليث، فرواه الطبراني (4536) من طريق عبدالله بن صالح، حدثني الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب به.
وخالفه يحيى ين عبد الله بن بكير، كما في شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 59) فرواه عن الليث، قال: حدثني معمر بن أبي حبيبة، عن عبيد الله بن عدي عن خيار قال: تذاكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عمر بن الخطاب الغسل من الجنابة، فقال بعضهم: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. وقال بعضهم: إنما الماء من الماء. وذكر نحو الحديث السابق، إلا أنه ليس في القصة ذكر زيد بن ثابت ولا أبي بن كعب، أو رفاعة بن رافع.
رسول الله)، من الجماع وعدم الاغتسال كان من الممكن أن يكون حجة لو أن
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ أحدًا من الأمة بخلافه، أما وقد بلغ فلا يلزم أن يبلغ كل فرد بعينه، فهؤلاء الذين لم يغتسلوا استصحبوا حكمًا سابقًا قد ثبت نسخه، وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ بعض أفراد الأمة بنسخه، فكأنه بلغ الأمة كلها.
ومثل هذه القصة ما رواه البخاري:
(1620 - 82) قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد عن أيوب، عن نافع
أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يكري مزارعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من إمارة معاوية، ثم حدث عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع، فذهب ابن عمر إلى رافع، فذهبت معه، فسأله، فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع، فقال ابن عمر: قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء وبشيء من التبن
(1)
.
(1621 - 83) وفي رواية له، قال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل عن
ابن شهاب، أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال:
كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكرى، ثم خشي عبد الله أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أحدث في ذلك شيئا لم يكن يعلمه فترك كراء الأرض
(2)
. والحديث في مسلم
(3)
.
وجه الاستدلال:
أن ابن عمر حكى عن بعض الصحابة بأنهم كانوا يكرون الأرض، ولم يكن هناك نهي من النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه أضاف الفعل إلى زمن التشريع، واستصحب ابن عمر هذا الحكم فكان يفعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واستمر على فعله زمن الخلفاء الراشدين
(1)
صحيح البخاري (2343).
(2)
صحيح البخاري (2345).
(3)
صحيح مسلم (1547).
من غير نكير، ثم علم فيما بعد من رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك، وكون ابن عمر حين بلغه النهي ترك ذلك إنما فعله من باب: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، ولذلك كان ابن عمر إذا سئل عن ذلك قال: زعم ابن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، ولم ينسب ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، وكما أن هذا يفهم من قوله:«زعم» ولم يقل أخبرنا، أو قال لنا. والله أعلم.
ولكن الجواب عن هذا هو ما ذكرناه عن الحديث الأول، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يلزمه أن يبلغ كل فرد بالأمة، فإذا بلغ من تقوم به الحجة، وتحفظ به الشريعة كفى.
والذي تلخص لي أن الصحابي إذا قال: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون، غير مضاف إلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يكون مرفوعًا؛ لأن الإقرار منه صلى الله عليه وسلم منتف في غير عهده صلى الله عليه وسلم، وهل يكون حجة؟
الجواب: إن خالف مرفوعًا لم يلتفت إليه أبدًا. وإن خالف موقوفًا على صحابي آخر نظر في أدلة كل قول. وإن لم يخالف فإنه حجة لا لاعتبار كونه مرفوعًا ولكن باعتبار أنه قول لبعض الصحابة لا يعلم له مخالف، وقول الصحابة مقدم على قول غيرهم، فهم أقرب من غيرهم لفهم الشرع، وقد عاصروا الوحي، وهم أهل اللسان.
وقد اختلف العلماء في عده إجماعًا.
فحكى الآمدي في الإحكام أن جمهور العلماء يعدونه إجماعًا؛ لأن الصحابي إذا قال: (كانوا يفعلون كذا) فإن هذا يفيد إضافة الفعل المحكي إلى جميع أهل الإجماع من ذلك العصر، فيكون الصحابي بتلك الصيغة قد نقل لنا الإجماع، وقد ذهب إلى ذلك أبو الخطاب في التمهيد، وشيخه أبو يعلى في العدة.
واختار بعض الأصوليين بأنه لا يفيد الإجماع ما لم يصرح الصحابي بنقل الإجماع عن أهله، وهم أهل الحل والعقد.
* * *