المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أهل الكهف: - الجامع الصحيح للسيرة النبوية - جـ ٤

[سعد المرصفي]

فهرس الكتاب

- ‌«مقدمات جهاد الدعوة وأثرها في حياة الدعاة»

- ‌مقدمة

- ‌رسالة ورسول

- ‌1 - إنذار الأقربين:

- ‌2 - الجهر العام:

- ‌3 - بين زعماء قريش وأبي طالب:

- ‌4 - السخرية والاستهزاء:

- ‌5 - التطاول على القرآن ومنزله ومن جاء به:

- ‌6 - الاتصال باليهود وأسئلتهم:

- ‌ السؤال عن الروح:

- ‌ أهل الكهف:

- ‌ ذو القرنين:

- ‌7 - دستور الحكم الصالح:

- ‌الطغاة:

- ‌المستضعفون:

- ‌8 - إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌9 - {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً}:

- ‌10 - بين الصهيونية والصليبيّة:

- ‌11 - معركة عقيدة:

- ‌12 - إسلام عمر الفاروق:

- ‌13 - عزيمة النبوّة:

- ‌14 - الاضطهاد والتعذيب:

- ‌15 - المساومة والإغراء:

- ‌16 - عقليَّة بليدة:

- ‌أولها:

- ‌ثانياً:

- ‌ثالثها:

- ‌رابعها:

- ‌17 - السمو الروحي:

- ‌18 - رسالة ورسول:

- ‌19 - طمأنينة قلب النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌20 - في رحاب سورة (فصلت):

- ‌21 - عناد المشركين:

- ‌22 - المعجزة الكبرى:

- ‌23 - نهاية المفاوضات:

- ‌24 - الصبر الجميل:

- ‌25 - تبليغ الرسالة:

- ‌26 - موقف الوليد بن المغيرة:

- ‌27 - نموذج للشرّ الخبيث:

- ‌قال المفسرون:

- ‌وقال الشوكاني في قوله:

- ‌28 - دعاية للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌29 - نماذج الخبث البشري:

- ‌30 - أسلوب الآيات:

- ‌31 - معالم الفجور:

- ‌32 - خصائص هذا النموذج:

- ‌33 - رأي آخر:

- ‌قال الفخر الرازي

- ‌قال الفخر الرازي:

- ‌34 - في رحاب سورة (القلم):

- ‌35 - معالم خصائص نموذج الفجور:

- ‌ المعْلَم الأول:

- ‌ المعْلم الثاني:

- ‌ المعلم الثالث:

- ‌ المعْلم الرابع:

- ‌ المعْلَم الخامس:

- ‌ المعْلَم السادس:

- ‌36 - إشهار نموذج الشر:

- ‌37 - منح في ثنايا المحن:

- ‌38 - إذاعة الإرجاف:

- ‌39 - توجيه إلهي:

- ‌40 - إسلام الطفيل الدوسي:

- ‌41 - نور الهداية:

- ‌42 - مضاء العزيمة:

- ‌43 - حوار عقول:

- ‌44 - آيات من العبر:

- ‌45 - قوّة الإيمان:

- ‌46 - المستقبل للإسلام:

- ‌47 - درس للدعاة:

- ‌«طريق جهاد الدعوة في ضوء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مقدمة

- ‌هذا هو الطريق

- ‌أشدّ الناس بلاء:

- ‌مفرق الطريق:

- ‌ضرورة الابتلاء:

- ‌قيمة العقيدة:

- ‌حقيقة الابتلاء:

- ‌يخلص لنا ابتداءً:

- ‌ويخلص لنا ثانياً:

- ‌ويخلص لنا ثالثاً:

- ‌ويخلص لنا رابعاً:

- ‌ابتلاء شديد:

- ‌هذا هو الطريق

- ‌وهذه هي طبيعة هذا المنهج ومقوّماته

- ‌والمصابرة

- ‌والمرابطة

- ‌تمحيص المؤمنين:

- ‌تربية إيمانيّة:

- ‌توكّل على الله:

- ‌نهاية الظالمين:

- ‌إعداد وثبات:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌معالم في الطريق:

- ‌المعلم الأول:

- ‌المعلم الثاني:

- ‌المعلم الثالث:

- ‌زلزال شديد:

- ‌مناجاة في ليلة القدر:

- ‌الله والطاغوت:

- ‌شظايا من الإيمان:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌أول هجرة في الإِسلام:

- ‌السابقون إلى الإِسلام:

- ‌مكانة السابقين:

- ‌غيظ قريش وحنقها:

- ‌إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة:

- ‌هجرة تبليغ الرسالة:

- ‌البعد عن مواطن الفتنة:

- ‌البعد عن إثارة المعوّقات في طريق الرسالة:

- ‌تخفيف الأزمات النفسيّة:

- ‌إفساح طريق التبليغ:

- ‌سجل المهاجرين:

- ‌حكمة سياسة الاستسرار:

- ‌سفارة المشركين إلى النجاشي:

- ‌سياسية تبليغ الدعوة:

- ‌إخفاق سفارة المشركين:

- ‌تملك النجاشيّ على الحبشة:

- ‌إسلام النجاشي:

- ‌عالميّة الدعوة الإِسلاميّة:

- ‌مكانة المرأة المسلمة:

- ‌عودة المهاجرين إلى المدينة:

- ‌هجرة مواجهة واختبار:

- ‌أسطورة الغرانيق

- ‌أكذوبة متزندقة:

- ‌المبشرون المستشرقون:

- ‌المستشرق اليهودي (يوسف شاخت) وأسطورة الغرانيق:

- ‌المستشرق (بروكلمان) وغيره:

- ‌السبب الأول:

- ‌السبب الثاني:

- ‌ردود العلماء:

- ‌بطلان الأسطورة سنداً ومتناً:

- ‌قول الحافظ ابن حجر:

- ‌قول الدكتور (أبو شهبة):

- ‌قول الإِمام محمد عبده:

- ‌البطلان من حيث الزمان:

- ‌سبب سجود المشركين:

- ‌لا سبيل للشيطان:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌على أن قول الشيخ الإِمام ابن تيمية:

- ‌ثم قال الإِمام ابن تيمية:

- ‌رأي أهوج للكوراني:

- ‌أمران باطلان:

- ‌الأمر الأول:

- ‌الأمر الثاني:

- ‌مفاسد رأي الكوراني:

- ‌المفسدة الأولى

- ‌قال الكوراني في ردّه على هذا الوجه من المفسدة:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلامة الآلوسي في نقض اعتراض الكوراني على المفسدة الأولى

- ‌المفسدة الثانية

- ‌وأجاب الشيخ الكوراني على هذا الوجه من المفسدة فقال:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌يقول الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الثالثة:

- ‌وقال الشيخ عرجون

- ‌ويردّ الشيخ إبراهيم الكوراني على الوجه الثالث من وجوه المفاسد الغرنوقيّة، فيقول الآلوسي

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الرابعة:

- ‌المفسدة الخامسة:

- ‌المفسدة السادسة:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌ثم قال العلاّمة المفسّر شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، معقّباً على ما ساقه من (أخبار هذه الأقصوصة الغرنوقيّة):

- ‌ثم قال الآلوسي:

- ‌قال شيخنا عرجون رحمه الله:

- ‌آيات القرآن:

- ‌درس للدعاة:

- ‌اعتباران:

- ‌الاعتبار الأول:

- ‌الاعتبار الثاني:

- ‌وصيّة أخويّة:

- ‌محنة الحصار الاقتصادي المقاطعة الظالمة

- ‌قوّة عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌التآمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تدبير أبي طالب لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌سبب كتابة الصحيفة:

- ‌شدّة حرص أبي طالب وشعره:

- ‌نقض ما تعاهدوا عليه:

- ‌آية الله في الصحيفة:

- ‌سعي أبي طالب:

- ‌كاتب الصحيفة:

- ‌شدة الحصار:

- ‌وفي رواية يونس:

- ‌كاتبها ماحيها:

- ‌تحرك العواطف:

- ‌لؤم نحيزة أبي جهل:

- ‌شعر أبي طالب بعد تمزيق الصحيفة:

- ‌المقاطعة في الصحيح:

- ‌إعداد لتحمّل أثقال الدعوة:

- ‌دروس للدعاة:

- ‌مسيرة الدعوة:

- ‌توالي اشتداد المحن

- ‌خُسران ملأ قريش:

- ‌مواقف العامة من الدعوة:

- ‌منهج الدعوة إلى الله:

- ‌رزء الحميّة القوميّة بوفاة أبي طالب:

- ‌شعر أبي طالب في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌وصيّة أبي طالب لقومه:

- ‌وفاة أبي طالب:

- ‌رزء الإِسلام ونبيّه بوفاة خديجة رضي الله عنها:

- ‌حقيقة الرسالة:

- ‌تسامي حياة الصدّيقية المؤمنة:

- ‌ورقة يؤكد فراسات خديجة:

- ‌دور خديجة رضي الله عنها:

- ‌موت خديجة وتسليم الله عليها وتبشيرها:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف:

- ‌قدوم الجنّ وإسلامهم:

- ‌توجيه ربّانيّ:

- ‌«الإسراء والمعراج - منحة ربانية بعد اشتداد المحن»

- ‌مقدمة

- ‌منحة ربَّانيَّة

- ‌طريق الدعوة:

- ‌أعظم آيّات الإعجاز الكوني:

- ‌تشريف وتكريم:

- ‌آيات الأنبياء:

- ‌رسالة عقليّة علميّة خالدة:

- ‌القرآن آية التحدّي العظمى:

- ‌الآيات الحسيّة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم

- ‌فكان الردّ عليهم:

- ‌ونقرأ التعقيب في الآية التالية:

- ‌ونبصر موقف أهل الإيمان عقب تلك الآيات مباشرة:

- ‌انشقاق القمر:

- ‌نبع الماء من بين أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌تكثير الطعام القليل:

- ‌حنين الجذع:

- ‌التحدّي بالقرآن:

- ‌آية الإسراء أرفع المراتب:

- ‌مفهوم الإسراء:

- ‌مفهوم المعراج:

- ‌حكم الإسراء والمعراج:

- ‌أهم الأحاديث:

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحكمة في اختصاص كل نبيّ بسماء:

- ‌صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء:

- ‌حكمة اجتماع الأنبياء في الصلاة:

- ‌بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش:

- ‌حقيقة الإسراء والمعراج:

- ‌القول الأول:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌قول باطل:

- ‌الإسراء ووحدة والوجود:

- ‌إبطال وحدة الوجود:

- ‌إنكار النصوص وتحريفها:

- ‌إغراب وتشويش:

- ‌طريق الكفاح في مسير الدعوة:

- ‌دعاة على الطريق:

- ‌وقت الإسراء والمعراج:

- ‌بدء الإسراء:

- ‌شبهات .. وردُّها

- ‌حديث شريك:

- ‌الشبهة الأولى وردّها:

- ‌الشبهة الثانية وردّها:

- ‌الشبهة الثالثة وردّها:

- ‌الشبهة الرابعة وردّها:

- ‌الشبهة الخامسة وردّها:

- ‌الشبهة السادسة وردّها:

- ‌الشبهة السابعة وردّها:

- ‌الشبهة الثامنة وردّها:

- ‌رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة المعراج:

- ‌القول الأوّل:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌الراجح من الأقوال:

- ‌الشبهة التاسعة وردّها:

- ‌الشبهة العاشرة وردّها:

- ‌بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:

- ‌مكانة المسجد الحرام

- ‌أول بيت للعبادة:

- ‌دين السلام:

- ‌ليلة القدر يكتنفها السلام:

- ‌أخوّة إنسانيّة:

- ‌الأسرة قاعدة الحياة البشريّة:

- ‌أساس السلام:

- ‌{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}:

- ‌أخص خصائص التحرّر الإنساني:

- ‌حرّية الدعوة:

- ‌إدراك العجز إدراك:

- ‌مكانة المسؤوليّة:

- ‌سلام عالمي:

- ‌ملّة إبراهيم:

- ‌سؤال الأمن يوم الخوف:

- ‌الأمن عبر التاريخ:

- ‌{أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}:

- ‌{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}:

- ‌حقوق الإنسان:

- ‌دعوة إبراهيم:

- ‌مكانة المسجد الأقصى ودور اليهود عبر التاريخ

- ‌تاريخ المسجد الأقصى:

- ‌في رحاب سورة الإسراء:

- ‌العصر الذهبي:

- ‌عهد الانقسام وزوال الملك:

- ‌مع الآيات القرآنية:

- ‌أشهر أقول المفسِّرين:

- ‌نبوءة المسيح عليه السلام:

- ‌رأي جديد:

- ‌سورة بني إسرائيل:

- ‌ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}

- ‌ردّ الكرة:

- ‌فرصة للاختيار:

- ‌بشرى للمؤمنين:

- ‌تعليق على المقال:

- ‌فتح المسلمين للقدس:

- ‌القدس الشريف:

- ‌خطبة الفاروق رضي الله عنه

- ‌العهدة العمرية:

- ‌أساطير التعصّب والحروب:

- ‌قذائف الحق:

- ‌نبوءة النصر:

- ‌الأقصى بين الأمس واليوم

- ‌الأقصى ينادي:

- ‌شكوى

- ‌جواب الشكوى

- ‌فلسطين الدامية

- ‌أخي

- ‌رد على الشهيد

- ‌نكبة فلسطين

- ‌يا أمتي وجب الكفاح

- ‌يا قدس

- ‌إلى القدس هيّا نشدّ الرحال

- ‌فلسطين الغد الظاهر

- ‌مناجاة في رحاب الأقصى

- ‌ذبحوني من وريد لوريد

- ‌اغضب لله

- ‌مشاهد وعبر

الفصل: ‌ أهل الكهف:

وتعددت الروايات في سبب النزول (1)، ونظراً لتعدَّد تلك الروايات، نؤثر أن نقف في ظل النص القرآني المستيقن، لنعلم يقيناً أنه كان هناك سؤال قد تعدّدت الروايات في ذكره!

-‌

‌ أهل الكهف:

ويطالعنا مفتح السورة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)} (الكهف).

ونبصر أنه تعالى يحمد نفسه المقدَّسة عند فواتح الأمور وخواتمها، وأنه جلَّ شأنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة، وقد حمد نفسه على إنزاله الكتاب العزيز على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتاباً مستقيماً، لا عوج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، واضحاً بينًّا جليًّا، نذيراً للكافرين، بشيراً للمؤمنين!

ونبصر بدءاً فيه استقامة، وفيه صرامة .. ومن ثمَّ تتضِّح المعالم، فلا لبس في العقيدة ولا غموض .. ويغلب ظل الإنذار الصارم في التعبير كله

!

(1) انظر: ابن كثير: التفسير: 3: 71 وما بعدها، والمرجع السابق.

ص: 909

وهنا نذكر ما رواه مسلم وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف عُصِمَ من الدّجال". (1)

ويروي الشيخان وغيرهما عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء بن عازب رضي الله عنه يقول:

"قرأ رجلٌ الكهف، وفي الدّار دابّة، فجفلتْ تنفْر، فنظر، فإذا ضبابةٌ -أو سحابة- قدْ غشيَتْهُ. قال: فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اقرأ فلان، فإنّها السكينة تنزّلتْ عند القرآن، أو تنزَّلت للقرآن". (2)

وفي رواية عن البراء رضي الله عنه قال:

كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصانٌ مربوط بشَطنَيْن، فتغشّته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه تَنْفر، فلمَّا أَصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال:"تلك السكينة تنزّلتَ بالقرآن" وتعددت الروايات في ذلك. (3)

(1) مسلم: 6 - صلاة المسافرين (809)، وأحمد: 5: 196، وانظر: 6: 449 - 450، والترمذي (2886)، وأبو داود (4323)، والنسائي: عمل اليوم والليلة (951)، والبغوي: شرح السنة (1204)، وأبو عوانة (3780)، والبيهقي: 3: 349.

(2)

البخاري: 61 - المناقب (2614)، وانظر (4839، 5011)، ومسلم (795)، والطيالسي (714)، وأبو نعيم الحلية: 4: 342، والبيهقي:"الدلائل": 7: 83، والبغوي (1206)، وابن حبان (769).

(3)

البخاري: 66 فضائل القرآن (5011)، وانظر (5018)، ومسلم (695)، وانظر (796)، وأحمد: 3: 81، والنسائي: الكبرى (8016، 8244)، وأبو عبيد: فضائل القرآن: 27، والحا كم: 1: 553 - 554، والطبراني: الكبير (566)، وانظر: مشارق الأنوار: 2: 22، والنووي: شرح صحيح مسلم: 6: 82.

ص: 910

ثم تجيء قصة أصحاب الكهف: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)} (الكهف).

وهو تلخيص يجمل القصّة (1)، ويرسم خطوطها العريضة، فنعرف أن أصحاب الكهف فتية، آووا إلى الكهف وهم مؤمنون، وأنه ضرب على آذانهم في الكهف، وأنهم بعثوا من رقدتهم الطويلة، وأنه كان هناك فريقان يتجادلان في شأنهم، ثم لبثوا في الكهف .. وقصتهم على غرابتها ليست بأعجب آيات الله، وفي صفحات هذا الكون من العجائب وفي ثناياه من الغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف والرقيم!

ويطالعنا المشهد الأول: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)} ، بإلهامهم كيف يدبرون أمرهم:{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} ، فإذا هي ثابتة راسخة، مطمئنة إلى الحق الذي عرفت، معتزّة بالإيمان الذي اختارت:{إِذْ قَامُوا}

(1) في ظلال القرآن: 4: 2261 وما بعدها بتصرف.

ص: 911

والقيام حركة تدل على العزم والثبات: {فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فهو رب لهذا الكون كله: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} فهو واحد بلا شريك: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)} وتجاوزنا الحق، وحدنا عن الصواب!

ثم يلتفتون إلى ما عليه قومهم فيستنكرونه، ويستنكرون المنهج الذي يسلكونه:{هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} ؟ فهذا هو طريق الاعتقاد: أن يكون للإنسان دليلٌ قويٌّ يستند إليه، وبرهان له سلطان على النفوس والعقول، وإلا فهو الكذب الشنيع؛ لأنه الكذب على الله:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)} ؟

وإلى هنا يبدو موقف الفتية واضحاً صريحاً حاسماً، لا تردّد فيه ولا تلعثم .. إنهم فتية أشدّاء في أجسامهم، أشدّاء في إيمانهم، أشدّاء في استنكار ما عليه قومهم!

ولقد تبيَّن الطريقان، واختلف المنهجان، فلا سبيل إلى الالتقاء، ولا للمشاركة في الحياة، ولا بدَّ من الفرار بالعقيدة .. إنهم ليسوا رسلاً إلى قومهم فيواجهوهم بالعقيدة الصحيحة ويدعوهم إليها، ويتلقوا ما يتلقاه الرسل .. إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط ظالم كافر، ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها، وهم لا يطيقون كذلك أن يُداروا القوم، ويداوروهم ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة، على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم لله .. والأرجح أن أمرهم قد كُشف، فلا سبيل لهم إلا أن يفرِّوا بدينهم إلى الله، وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة، وقد أجمعوا أمرهمِ فهم يتناجون بينهم:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)}

ص: 912

وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة، فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم، ويهجرون ديارهم، ويفارقون أهلهم، ويتجرّدون من زينة الأرض ومتاع الحياة .. هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيّق الخشن المظلمِ. هؤلاء يستروحون رحمة الله، ويحسّون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدّة:{يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)} ولفظه {يَنشُرْ} تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح، فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع، تنتشر فيه الرحمة، وتتسع خيوطها، وتمتدّ ظلالها، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء .. إن الحدود الضيّقة لتنزاح، وإن الجدران الصلدة لترق، وإن الوحشة الموغلة لتشف، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق!

إنه الإيمان .. وما قيمة الظواهر؟ وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارف عليها الناس في حياتهم الأرضيَّة؟!

إن هنالك عالماً آخر في جنبات القلب المغمور بالإيمان، المأنوس بالرحمن، عالماً تظلّله الرحمة والرفق والرضوان!

ويطالعنا قوله جلَّ شأنه: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)} (الكهف).

وهو مشهد تصويري عجيب، ينقل بالكلمات هيئة الفتية في الكهف، كما

ص: 913

يلتقطها شريط متحرّك، والشمس تطلع على الكهف فتميل عليه كأنها متعمدة، ولفظ {تَزَاوَرُ} تصوّر مدلولها، وتلقي ظلال الإرادة في عملها، والشمس تغرب فتجاوزهم إلى الشمال وهم في فجوة منه .. ويعلق على وضعهم بأحد التعليقات القرآنيّة التي تتخلل لتوجيه القلوب {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} وضعهم هكذا في الكهف والشمس لا تنالهم بأشعّتها وتقرب منهم بضوئها، وهم في مكانهم لا يموتون ولا يتحركون:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)} هو وللهدى والضلال ناموس، فمن اهتدى بآيات الله فقد هداه الله وفق ناموسه، وهو المهتدي حقًّا، ومن لم يأخذ بأسباب الهدى ضلّ، وجاء ضلاله وفق الناموس الإلهي فقد أصله الله إذن، ولن تجد له من بعد هادياً!

ويمضي السياق يكمل المشهد العجيب، وهم يقلبون من جنب إلى جنب في نومتهم الطويلة، فيحسبهم الرائي أيقاظاً وهو رقود، وكلبهم -على عادة الكلاب- باسط ذراعية بالفناء قريباً من باب الكهف كأنه يحرسهم، وهم في هيئتهم هذه يثيرون الرعب في قلب من يطلع عليهم، إذ يراهم نياماً كالأيقاظ، يتقلّبون ولا يستيقظون، وذلك من تدبير الله، كي لا يعبث بهم عابث، حتى يجري الوقت المعلوم!

وفحأة تدب فيهم الحياة، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)} (الكهف)!

ص: 914

ويطالعنا هذا المشهد، والفتية يستيقظون وهم لا يعرفون كم لبثوا منذ أن أدركهم النعاس .. إنهم يفركون أعينهم، ويلتفت أحدهم إلى الآخر فيسأل:{كَمْ لَبِثْتُمْ} ؟ كما يسأل مِن يستيقظ من نوم طويل، ولابد أنه كان يحسّ بآثار نوم طويل:{قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} !

ثم رأوا أن يتركوا هذه المسألة التي لا طائل وراء البحث فيها، ويدعوا أمرها لله -شأن المؤمن في كل ما يعرض له مما يجهله- وأن يأخذوا في شأن عمليّ، فهم جائعون، ولديهم نقود فضيّة خرجوا بها من المدينة:{قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} وهم يحذرون أن ينكشف أمرهم، ويعرف مخبؤهم، فيأخذهم أصحاب السلطان في المدينة فيقتلوهم رجماً -بوصفهم خارجين على الدّين، لأنهم يعبدون إلهاً واحداً في المدينة المشركة! - أو يفتنوهم عن عقيدتهم بالتعذيب، وهذه هي التي يتقونها، لذلك يوصون أحدهم أن يكون حذراً لبقاً:{وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)} ! فما يفلح من يرتدّ عن الإيمان إلى الشرك، وإنها للخسارة الكبرى!

وهكذا نشهد الفتية يتناجون فيما بينهم، حذرين خائفين، لا يدرون أن الأعوام قد كرَّت، وأن عجلة الزمن قد دارت، وأن أجيالاً قد تعاقبت، وأن مدينتهم التي يعرفونها قد تغيّرت معالمها، وأن المسلّطن الذين يخشونهم على عقيدتهم قد دالت دولتهم، وأن قصة الفتية الذين فرّوا بدينهم في عهد الملك الظالم قد تناقلها الخلف عن السلف، وأن الأقاويل حولهم متعارضة، حول عقيدتهم، وحول الفترة التي مضت منذ اختفائهم!

وهكذا يسدل الستار على مشهدهم في الكهف ليرفع على مشهد آخر!

ص: 915

ونفهم أن أهل المدينة اليوم مؤمنون، فهم شديدو الحفاوة بالفتية المؤمنين بعد أن انكشف أمرهم بذهاب أحدهم لشراء الطعام، وعرف الناس أنه أحد الفتية الذين فرّوا بدينهم منذ عهد بعيد!

ولنا أن نتصوّر ضخامة المفاجأة التي اعترف الفتية -بعد أن أيقن أحدهم أن المدينة قد مضى عليها العهد الطويل منذ أن فارقوها، وأن الدنيا قد تبدَّلت من حولهم، فلم يعد لشيء مما ينكرونه، ولا لشيء مما يعرفونه وجود! وأنهم من جيل قديم مضت عليه القرون، وأنهم أعجوبة في نظر الناس وحسّهم. فلن يمكن أن يعاملوهم كبشر عاديين، وأن كل ما يربطهم بجيلهم من قرابات ومعاملات ومشاعر وعادات وتقاليد .. كله قد تقطع، فهم أشبه بالذكرى الحيّة منهم بالأشخاص الواقعيّة

فيرحمهم الله من هذا كله فيتوفاهم!

لنا أن نتصوَّر هذا كله .. أما السياق القرآني فيعرض هذا المشهد الأخير، مشهد وفاتهم، والناس خارج الكهف يتنازعون في شأنهم، على أي دين كانوا، وكيف يخلدونهم ويحفظون ذكراهم للأجيال، وتطالعنا العبرة المستفادة:{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)} (الكهف). والعبرة في خاتمة هؤلاء الفتية هي دلالاتها على البعث بمثل واقعي قريب محسوس، يقرب إلى الناس قضيّة البعث، فيعلموا أن وعد الله بالبعث حق، وأن الساعة لا ريب فيها .. وعلى هذا النحو بعث الله الفتية من نومتهم، وأعثر قومهم عليهم!

ص: 916

وقال بعض الناس: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} لا يحدّد عقيدتهم {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} وبما كان عليه من عقيدة!

وقال أصحاب السلطان في ذلك الأوان: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)} والمقصود معبد، على طريقة أهل الكتاب، في اتخاذ المعابد على مقابر الأنبياء والصالحين .. وكما يصنع اليوم من يقلّدونهم من المسلمين، مخالفين لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وغيرهما أن عائشة وعبد الله بن عباس قالا:"لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يطرح خَميصةً له على وجهه، فإِذا اغْتَمَّ بها كشف عن وجهه، فقال -وهو كذلك-: "لَعْنَةُ اللهِ على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يُحَذِّرُ ما صَنَعُوا. (1)

قال السندي: (يُحَذِّرُ): أي أمته، قيل: لأنه يصير بالتدريج تشبيهاً بعبادة الأوثان، وقوله (قبور أنبيائهم)، أي وصلحائهم، كما في رواية مسلم، وإلا فالنصارى ليس لهم إلا نبيّ واحد لا قبر له!

ورواية مسلم عن عائشة، أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة، فيها تصاوير، لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِن أولئك إِذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بَنَوا على قبره مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصُّوَر، أولئك شرار الحلق عند الله يوم القيامة". (2)

(1) البخاري: 8 - الصلاة (435، 436)، وانظر (1330، 1390، 3453، 4441، 4443، 5815، 3454، 4444، 5816)، ومسلم (531)، وعبد الرزاق (1588، 9754، 15917، وأبو عوانة: 1: 399، والدارمي: 1: 326، والبيهقي: 4: 80، والدلائل: 7: 203، والبغوي (3825)، والنسائي: 2: 40 - 41، وأحمد: 1: 218، 6:275. وانظر: ابن سعد: 2: 258 عن الواقدي.

(2)

مسلم: 5 - المساجد (528).

ص: 917

ويطالعنا الجدل حول أصحاب الكهف، على عادة الناس يتناقلون الروايات والأخبار ويزيدون فيها وينقصون، ويضيفون إليها من خيالهم جيلاً بعد جيل، حتى تتضخَّم وتتحوَّل، وتكثر الأقاويل حول الخبر الواحد أو الحدث الواحد كلما مرَّت القرون:{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)} (الكهف)!

فهذا الجدل حول عدد الفتية لا طائل وراءه، وإنه ليستوي أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو سبعة أو أكثر، وأمرهم موكول إلى الله، وعلمهم عند الله، وعند القليلين الذين تثبّتوا من الحادث عند وقوعه .. فلا ضرورة إذن للحديث الطويل حول عددهم .. والعبرة في أمرهم حاصلة بالقليل وبالكثير

لذلك يوجّه القرآن خاتمَ النبيّين صلى الله عليه وسلم إلى ترك الجدل في هذه القضيّة، وإلى عدم استفتاء أحد من المتجادلين في شأنهم، تمشّياً مع منهج الإسلام في صيانة الطاقة العقليّة أن تبدَّد في غير ما يفيد، وفي ألا يقفو المسلم ما ليس له به علم وثيق

وهذا الحادث الذي طواه الزمن هو من الغيب الموكول إلى علم الله، فليترك إلى علم الله!

وبمناسبة النهي عن الجدل في غيب الماضي، يرد النهي عن الحكم على غيب المستقبل وما يقع فيه. فالإنسان لا يدري ما يكون في المستقبل حتى يقطع برأي فيه:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)} (الكهف)!

ص: 918

إن كل حركة وكل نأمة، بل كل نفس من أنفاس الحيّ، مرهون بإرادة الله .. وسجف الغيب مسبل يحجب ما وراء اللحظة الحاضرة .. وعين الإنسان لا تمتد إلى ما وراء الستر المسدل، وعقله مهما علم قاصر كليل، فلا يقل إنسان: إني فاعل ذلك غداً، والغد في غيب الله، وأستار غيب الله دون العواقب!

وليس معنى هذا أن يقعد الإنسان، لا يفكر في أمر المستقبل ولا يدبر له، وأن يعيش يوماً بيوم، لحظة بلحظة، وألا يصل ماضي حياته بحاضره وقابله .. كلا. ولكن معناه أن يحسب حساب الغيب وحساب المشيئة التي تدبره، وأن يعزم ما يعزم ويستعين بمشيئة الله على ما يعزم، ويستشعر أن يد الله فوق يده، فلا يستبعد أن يكون لله تدبير غير تدبيره، فإن وفقه الله إلى ما اعتزم، وجرت مشيئة الله بغير ما دبر لم يحزن ولم ييأس؛ لأن الأمر لله أولاً وأخيراً!

فليفكر الإنسان وليدبر، ولكن ليشعر أنه إنما يفكر بتيسير الله، ويدبر بتوفيق الله، وأنه لا يملك إلا ما يمدّه الله من تفكير وتدبير، ولن يدعو هذا إلى كسل أو تراخ، أو ضعف أو فتور، بل على العكس يمدّه بالثقة والقوّة والاطمئنان والعزيمة، فإذا انكشف ستر الغيب عن تدبير لله غير تدبيره، فليتقبّل قضاء الله بالرضى والطمأنينة والاستسلام، لأنه الأصل الذي كان مجهولاً فكشف عنه الستار!

هذا هو المنهج الذي يأخذ به الإسلام قلب المسلم، فلا يشعر بالوحدة والوحشة وهو يفكّر ويدبّر، ولا يحسّ بالغرور والتبطر وهو يفلح وينجح، ولا يستشعر القنوط واليأس وهو يفشل ويخفق، بل يبقى في كل أحواله متصلاً بالله، قويًّا بالاعتماد عليه، شاكراً لتوفيقه إيّاه، مسلماً بقضائه وقدره، غير متبطر ولا قنوط!

ص: 919

ونبصر في تأخير الوحي بالجواب عتاباً رمزياً من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما عاتب سليمان، فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن نبيّ الله سليمان عليه الصلاة والسلام كان له ستون امرأة، فقال: لأطوفنَّ الليلة على نسائي فلتحملن كل امرأة، ولتلدن فارساً يقاتل في سبيل الله، فطاف على نسائه، فما ولدتْ منهن إِلا امرأةٌ ولدت نصف شقّ غلام، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم:"لو كان سليمان استثنى لحملت كل امرأةٍ منهن فولدت فارساً يقاتل في سبيل الله". (1)

وكان هذا عتاباً صريحاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا سئل عن أهل الكهف -كما أسلفنا- وعد بالإجابة، ولم يستثن، كما نسي سليمان عليه السلام فأعلم الله رسوله بقصة (أهل الكهف)، ثم نهاه أن يعد بفعل شيء دون التقيّد بمشيئة الله!

وقوله جل شأنه: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} استثناء حقيقي من الكلام الذي قبله وفي كيفيّة نظمه اختلاف للمفسّرين. (2)

فمقتضى كلام الزمخشري أنه من بقيّة جملة النهي، أي هو استثناء في حكم النهي، أي لا تقولن: إني فاعل إلخ

إلا أن يشاء الله أن تقوله، ومشيئة الله تُعلم من إذنه بذلك، فصار المعنى: إلا أن يأذن الله لك بأن تقوله، وعليه

(1) البخاري: 97 - التوحيد (4769)، وانظر (3424، 5242، 6720)، ومسلم (1654)، والحميدي (1174)، وأحمد: 2: 275، والنسائي: 7: 25 - 26، والبغوي (79)، والبيهقي: 10: 44، وابن حبان (4337)، والطحاوي: مشكل الآثار (1925)، وانظر: الفتح 6: 46.

(2)

التحرير والتنوير: 15: 295 بتصرف.

ص: 920

فالمصدر المنسبك من {أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} مستثنى من عموم المنهيات، وهو من كلام الله تعالى، ومفعول {يَشَاءَ اللَّهُ} محذوف، دل عليه ما قبله، كما هو شأن فعل المشيئة، والتقدير: إلا قولاً شاءه الله، فأنت غير منهي عن أن تقوله!

ومقتضى كلام الكسائي والأخفش والفرّاء مستثنى من جملة {إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} ، فيكون مستثنى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم المنهي عنه، أي إلا قولاً مقترناً بـ (أن يشاء الله) فيكون المصدر المنسبك من {أَن} والفعل في محل نصب على نزع الخافض، وهو باء الملابسة، والتقدير: إلا بـ (أن يشاء الله) أي بما يدل على ذكر مشيئة الله؛ لأن ملابسة القول لحقيقة المشيئة محال، فعلم أن المراد تلبسه بذكر المشيئة بلفظ (إن شاء الله) ونحوه، فالمراد بالمشيئة إذْن الله له!

وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم من ثلاث جهات:

الأولى: أنه أجاب سؤله، فبيَّن لهم ما سألوه إيَّاه، على خلاف عادة ذلك مع المكابرين!

الثانية: أنه علَّمه علماً عظيماً من أدب النبوَّة!

الثالثة: أنه ما علَّمه ذلك إلا بعد أن أجاب سؤله استثناساً لنفسه ألا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه، كيلا يتوهّم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله، وكذلك شأن تأديب الحبيب المكرّم، ومثاله ما رواه الشيخان وغيرهما عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال:

سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: "يا حكيم، إِن هذا المال خَضِرةٌ حُلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بُورك له فيه، ومن أخذه بإِشراف نفس لم يُبارك له فيه،

ص: 921

كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى" قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرْزَ أأَحَداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيماً إِلى العطاء، فيأبى أن يقبله منه، ثم إِن عمر رضي الله عنه دعاه ليُعْطِيَه، فأبى أن يَقْبَل منه شيئاً، قال عُمر: إِنّي أشْهِدُكُم يا معشر المسلمين على حكيم أنّي أعرض عليه حقَّه من هذا الفَيْء فيأبى أن يأخذه، فلم يرْزأْ حكيمٌ أحداً من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تُوفِّي". (1)

فعلم حكيم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له ليس القصد منه منعه من سؤاله، وإنما قصد منه تخليقه بخلق جميل، فلذلك أقسم حكيم ألا يأخذ عن أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولم يقل: لا أسألك بعد هذه المرة شيئاً!

فنظم الآية أن اللام في قوله {لِشَيْءٍ} ليست اللام التي يتعدَّ بها فعل القول إلى المخاطب، بل هي لام العلّة، أي لا تقولنَّ: إني فاعل كذا لأجل شيء تَعدُ به، فاللام بمنزلة (في)!، و (شيء) اسم متوغل في التنكير يفسره المقام، أَي لشيء تريد أن تفعله، والإشارة بقوله {ذَلِكَ} عائدة إلى (شيء)، أي إني فاعل الإخبار بأمر يسألونه، و {غَدًا} مستعمل في المستقبل مجازاً، وليس كلمة {غَدًا} مراداً بها اليوم الذي يلي يومه، ولكنه يستعمل في معنى الزمان

(1) البخاري: 24 - الزكاة (1472)، وانظر (2750، 3143، 6441). ومسلم (1035)، والحميدي (553)، وابن أبي شيبة: 3: 211، والنسائي: 5: 60، 100، 101، وابن أبي عاصم: الآحاد والثاني (595)، وعبد الرزاق (20041)، والترمذي (2463)، وأحمد: 3: 434، والدارمي: 1: 388، 2: 310، وابن حبان (3220، 3402)، والطبراني: الكبير (3078، 3080، 3080، 3081)، والبيهقي: 4: 1960، والبغوي (1619).

ص: 922

المستقبل، كما يستعمل اليوم بمعنى زمان الحال، والأمس بمعنى زمن الماضي، وقد جمعها قول زهير:

واعلمُ عِلْمَ اليوم والأمس قبله

ولكني عن علم ما في غدٍ عَمِ

وظاهر الآية اقتصار إعمالها على الإخبار بالعزم على فعل في المستقبل، دون ما كان من الكلام إنشاء مثل الأيمان، فلذلك اختلف فقهاء الأمصار في شمول هذه الآية لإنشاء الأيمان ونحوها، فقال جمهورهم: يكون ذكر {إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ} حلاًّ لعقد اليمين، يسقط وجوب الكفارة، ولعلهم أخذوه من معنى (شيء) في قوله:{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ} إلخ: بحيث إذا أعقبت اليمين بقول {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ونحوه لم يلزم البرّ في اليمين، وروى ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكيم عن مالك أن قوله:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ} إلخ

إنما قُصد بذلك ذكر الله عند السهو وليس باستثناء، يعني أن حكم الثنيا في الأيمان لا يؤخذ من هذه الآية، بل هو مما ثبت بالسنة، ولذلك لم يخالف مالك في إعمال الثنيا في اليمين. وهي قول:(إن شاء الله) وهذا قول أبي حنيفة والشافعي!

{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} عطف على النهي، أي لا تَعدْ بوعد، فإن نسيت فقلت: إني فاعل، فاذكر ربك، أي اذكر ما نهاك عنه، والمَراد بالذكر التدارك، وهو هنا مشتق من الذُّكر -بضم الذال- وهو كناية عن لازم التذكر، وهو الامتثال، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه)!

ص: 923

وفي تعريف الجلالة بلفظ الرب مضافاً إلى ضمير الخاطب دون اسم الجلالة الْعَلَم من كمال الملاطفة ما لا يخفى، وحذف مفعول {نَسِيتَ} لظهوره من المقام، أي إذا نسيت النهي فقلت: إني فاعل، وبعض الذين أعملوا آية {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} في حلّ الأيمان بذكر الاستثناء بمشيئة الله جعلوا قوله {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ترخيصاً في تدارك الثنيا عند تذكر ذلك، فمنهم من لم يحد ذلك بمدّة، وعن ابن عباس: لا تحديد بمدّة، بل ولو طال ما بين اليمين والثنيا، والجمهور على أن قوله {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} لا دلالة فيه على جواز تأخيرِ الثنيا، واستدلوا بأن السنة وردت بخلافه! {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)} .

لما أبرّ الله وعد نبيّه صلى الله عليه وسلم الذي وعده المشركين أن يبيّن لهم أمر أهل الكهف فأوحاه إليه، وأوقفهم عليه، أعقب ذلك بعتابه على التصدّي لمجاراتهم في السؤال عما هو خارج على غرض الرسالة، دون إذن من الله، وأمره أن يذكر نهي ربّه، ويعزم على تدريب نفسه على إمساك الوعد ببيان ما يسأل منه بيانه دون أن يأذن الله به، أمره هنا أن يخبر سائليه بأنه ما بعث للاشتغال بمثل ذلك، وأنه يرجو الله أن يهديه إلى ما هو أقرب من الرشد من بيان أمثال هذه القصة، وإن كانت هذه القصة تشتمل على موعظة وهدى، ولكن الهدى الذي في بيان الشريعة أعظم وأهم، والمعنى وقيل له:{عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)} وهي جملة معطوفة على جملة {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ} ويجوز أن تكون عطفاً على جملة {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أي اذكر أمره ونهيه، وقل في نفسك {عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)} ، أي ادع الله بهذا!

وانتصب {رَشَدًا} على تمييز نسبة التفضيل من قوله {لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا}

ص: 924

ويجوز أن يكون منصوباً على أنه مفعول مطلق مبيّن النوع فعل {أَن يَهْدِيَنِ} لأن الرشد نوع من الهداية، و {عَسَى} مستعملة في الرجاء تأدباً، واسم الإشارة عائد إلى المذكور من قصة أهل الكهف، بقرينة وقوع هذا الكلام معترضاً في أثنائها، ويجوز أن يكون المعنى: وارج من الله أن يهديك فيُذكرك ألا تَعِدَ وعْداً ببيان شيء دون إذن الله! (1)

في كلمة {عَسَى} وكلمة {لأَقْرَبَ} الدلالة على ارتفاع هذا المرتقى، وضرورة المحاولة الدائمة للاستواء عليه في جميع الأحوال! (2)

ويطالعنا قوله جل شأنه: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)} (الكهف)!

وهذا هو فصل الخطاب في أمرهم، يقرّره عالم غيب السموات والأرض، ما أبصره، وما أسمعه! سبحانه، فلا جدال بعد هذا ولا مراء!

والمعنى أن يقدر لبثهم بثلائمائة وتسع سنين، فَعُبِّر عن هذا العدد بأنه ثلاثمائة سنة، وزيادة تسع (3)، ليعلم أن التقدير بالسنين القمريّة المناسبة لتاريخ العرب والإسلام، مع الإشارة إلى موافقة ذلك المقدار بالسنين الشمسيّة التي بها تاريخ القوم الذين منهم أهل الكهف، وهم أهل الروم!

وهذا إخبار من الله تعالى عن مقدار لبثهم، قال السهيلي (4): ولكن لما علم استبعاد قريب وغيرهم من الكفار لهذا المقدار، وعلم أن فيه تنازعاً بين الناس،

(1) التحرير والتنوير: 15: 301.

(2)

في ظلال القرآن: 4: 2266 بتصرف.

[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا الهامش ورد في المطبوع قبل موضعه الصحيح هذا بصفحات]

(3)

التحرير والتنوير: 15: 300.

(4)

الروض الأنف: 2: 57 وما بعدها.

ص: 925

فمن ثُمَّ قال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} ، وقوله:{ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} أي إنها ثلاثمائة بحساب العجم، وإن حسبت الأهلة، فقد زاد العدد تسعاً، لأن ثلاثمائة بحساب الشمس تزيد تسع سنين بحساب القمر، فإن قيل: فكيف قال ثلاثمائة سنين، ولم يقل سنة، وهو قياس العدد في العربيّة، لأن المائة تضاف إلى لفظ الواحد، فالجواب أن سنين في الآية بدل مما قبله، ليس على حدّ الإضافة ولا التمييز، ولحكمة عظيمة عدل باللفظ عن الإضافة إلى البدل، وذلك أنه لو قال: ثلاث مائة سنة، لكان الكلام كأنه جواب لطائفة واحدة من الناس، والناس فيهم طائفتان: طائفة عرفوا طول لبثهم، ولم يعلموا كميّة السنين، فعرفهم أنها ثلاثمائة.

وطائفة لم يعرفوا طول لبثهم، ولا شيئاً من خبرهم.

فلما قال: ثلاثمائة معرفاً للأولين بالكميّة التي شكّوا فيها، مبيّناً للآخرين أن هذه الثلاثمائة سنون، ليست أيّاماً ولا شهوراً، فانتظم البيان الطائفتين من ذكر العدد، وجمع المعدود، وتبيّن أنه بدل، إذ البدل يُراد به: تبيين ما قبله، ألا ترى أن اليهود قد كانوا عرفوا أن لأصحاب الكهف نبأ عجيباً، ولم يكن العجب إلا من طول لبثهم، غير أنهم لم يكونوا على يقين من أنها ثلاثمائة أو أقل، فأخبر أن تلك السنين ثلاثمائة، ثم لو وقف الكلام ها هنا لقالت العرب، ومن لم يسمع بخبرهم: ما هذه الثلاثمائة؟ فقال كالمبين لهم: سنين، وقد روي معنى هذا التفسير عن الضحاك، وذكره النحاس!

وقال: {سِنِينَ} ، ولم يقل (أعواماً)، والسنة والعام، وإن اتسعت العرب فيهما، واستعملت كل واحد منهما مكان الآخر اتساعاً، ولكن بينهما في حكم البلاغة والعلم بتنزيل الكلام فرقاً، فخذه أولاً من الاشتقاق، فإن السنة من سنا

ص: 926

يسنو، إذا دار حول البئر، والدابة: هي السانية، فكذلك السنة دورة من دورات الشمس، وقد تسمى السنة: داراً

هذا أصل الاسم، ومن ثم قالوا: أكلتهم السنة، فسمّوا شدّة القحط سنة، قال سبحانه:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْن بِالسِّنِيِنَ} (الأعراف: 130).

ومن ثم قيل: أسنت القوم إذا قحطوا، وكأن وزنه (افعتوا)، لا (أفعلوا)، كذلك قال بعضهم، وجعل سيبوية التاء بدلاً من الواو، فهي عنده (أفعلوا). لأن الجدوبة والخصب معتبر بالشتاء والصيف.

وحساب العجم إنما هو بالسنين الشمسيَّة، بها يؤرخون، وأصحاب الكهف من أمّة عجميّة، والنصارى يعرفون حديثهم، ويؤرّخون به، فجاء اللفظ في القرآن بذكر السنين الموافقة لحسابهم، وتمم الفائدة بقوله:{وَازْدَادُوا تِسْعًا} ليوافق حساب العرب، فإن حسابهم بالشهور القمريّة (المحرم، وصفر) ونحوهما.

وانظر بعد هذا إلى قوله: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} (يوسف: 47).

ولم يقل أعواماً، ففيه شاهد لما تقدّم، غير أنه قال:{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ} (يوسف: 49).

ولم يقل (سنة)، عدولاً عن اللفظ المشترك، فإن السنة قد يعبّر بها عن الشدّة والأزمة -كما تقدّم- فلو قال:(سنة) لذهب الوهم إليها، لأن العام أقل أياماً من السنة، وإنما دلت الرؤيا على سبع سنين شداد، وإذا انقضى العدد فليس بعد الشدّة إلا رخاء، وليس في الرؤيا ما يدل على مدّة ذلك الرخاء، ولا يمكن أن يكون أقل من عام، والزيادة على العام مشكوك فيها، لا تقتضيها الرؤيا، فحكم بالأقل، وترك ما يقع فيه الشك من الزيادة على العام!

ص: 927

فهاتان فائدتان في اللفظ بـ (العام) في هذا الموطن، وأما قوله:{وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} (الأحقاف: 15)!

فإنما ذكر السنين، وهي أطول من الأعوام، لأنه مخبر عن اكتمال الإنسان، وتمام قوته واستوائه، فلفظ السنين أولى بهذا الموطن، لأنها أكمل من الأعوام!

وفائدة أخرى: أنه خبر عن السن، والسن معتبر بالسنين، لأن أصل السن في الحيوان لا يعتبر إلا بالسنة الشمسيّة

وهكذا!

وقرأ الجمهور {ثَلاثَ مِائَةٍ} بالتنوين، وانتصب (سنين) على البدليّة من اسم العدد، على رأي من يمنع مجيء تمييز المائة منصوباً، أو هو تمييز عند من يجيز ذلك!

وقرأ حمزة والكسائي وخلف بإضافة مائة إلى سنين، على أنه تمييز للمائة، وقد جاء تمييزاً لمائة جمعاً، وهو نادر، لكنه فصيح!

واليهود الذين لقَّنوا قريشاً السؤال -كما سبق- يؤرخون الأشهر بحساب القمر، والسنين بحساب الدورة الشمسيّة، فالتفاوت بين أيام السنة القمريّة وأيّام السنة الشمسيّة يحصل منه سنة قمرية كاملة في كل ثلاث وثلاثين سنة شمسيّة، فيكون التفاوت في مائة سنة شمسية بثلاث سنين زائدة قمريّة، كذا نقله ابن عطية (2) عن النقاش المفسّر!

وبهذا تظهر نكتة التعبير عن التسع السنين بالازدياد، وهذا من علم القرآن وإعجازه العلمي الذي لم يكن لعموم العرب علم به!

(2) انظر: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية: 9: 283 وما بعدها تحقيق وتعليق عبد الله الأنصاري، والسيد عبد العال، ط أولى، غرة جمادى الأولى 1408 هـ ديسمبر 1987 م، الدوحة

ص: 928