الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما أنت بمستطيع إفهامه هذه الألغاز والطلاسم التي حاول بها إحداث رأي جديد، لا يدري أسبق إليه أم لا!
وهل تصوير الإسراء والمعراج بهذا التصوير إلا إشكال على عقول الكثرة من الناس، ومخاطبة لهم بما لا تبلغه عقولهم ومداركهم، وقد أُمرنا أن نحدّث الناس بما يعقلون، وأن ندع ما ينكرون، وفي الحكم الذهبية عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود صلى الله عليه وسلم:
(ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة). (1)
الحق أن الإغراب على القراء بمثل هذه الأفكار المسمومة، والآراء الشاذّة الغريبة تشكيك لهم في عقائدهم الصحيحة، وتسميم لعقولهم، وانحراف بهم عن فطرتهم السليمة، والحق أبلج لا يحتاج إلى تكلّف، وتعمّل وتفلسف، من غير داع:
{وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ (86)} (ص)!
كما أنه أثر من آثار مجاراة المستشرقين ومتابعتهم في أفكارهم!
طريق الكفاح في مسير الدعوة:
ومعلوم أن آية الإسراء والمعراج من أعجب ما أوتي الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وتسليماته، رسمت في إطارها الإعجازي طريق مسير الرسالة في تشريعها، وتطبيق أحكامها، بما شاهد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1) صحيح مسلم: المقدمة: 3: باب النهي عن كل ما سمع.
ورأى من آيات ربّه في ملكوته من عجائب الكون التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صور من عالم الغيب، تتضاءل أمام جلالها وعظمتها كل صور المشاهد الأرضيّة! (1)
وهذه الآيات لعجائب الملكوت هي في الحقيقة موطن الحفاوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ليمسح الله بها كل أثر لقيه صلى الله عليه وسلم من آثار الفجور الوثنيّ، وطغيان الشرك، وعتوّ العناد، وبأو الاستكبار، والبغي في معاملة هؤلاء الفجرة له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، ليزداد صلى الله عليه وسلم علماً بأن رسالته في عمومها الأشمل، وخلودها المؤبّد، رسالة كفاح صبور أبديّ مستمر، ما قامت الحياة على ظهر هذه الأرض، وأنها دعوة نضال لا يعرف التوقّف والمهادنة؛ لأنها دعوة تستهدف إخراج الإنسانيّة من ظلمات الظلم والجهل إلى نور العدل والعلم، وتطهير هذه الإنسانيّة من أوضار الشرك، ورجس الوثنيّات، في صورها كافة وأشكالها، مهما ألبست من لبوس العلم الزائف والمعرفة المتهافتة -كما عرفنا في دعوى وحدة الوجود- وإنقاذ الحياة من ظلم الطغيان الممثل في جبروت المستعبدين للبشريّة في صورة زعماء وحكام وأباطرة، وثراء في المال، يسخّرونهم لقضاء شهواتهم الفاجرة، ويعملون على سرمدة الجهل فيهم، لتدوم لهم طاعتهم وتسخيرهم عبيداً لا يعرفون طعم الحريّة في حياتهم، حتى يعلم الناس كل الناس في مشارق الأرض ومغاربها أن التأسّي بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يتمثّل في إقامة منهجه في رسالته علماً وعملاً، وصبراً وجهاداً!
(1) محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 361 وما بعدها بتصرف.
وحتى يعلم وارثو منهجه صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الحق من حملة دعوته ورسالته المنتصبين للدعوة .. أنهم يحملون أثقال ما حُمّل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تطبيق منهجه على أنفسهم، وأقرب المقرّبين إليهم، وأبعد الأبعدين عنهم، ليكونوا مُثلاً حيّةً لحياته صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالته، ونشر دعوته، تتحرّك بين الناس، حاملة لواء الوراثة النبويّة، يخفق في آفاق الأرض منادين: أن رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم عقد لواء انتصارها على عتوّ المعاندين المستكبرين في الأرض في ظلّ (سدرة المنتهى) ليلة شرّفه الله بالإسراء والمعراج، وما عقد في السماء فلن يحلّ في الأرض!
فلتسمع الدنيا بمن فيها وما فيها صوت الحق والخير والهدى في هذه الرسالة السرمديّة، وليستجب الذين يسمعون إلى دعوة العدل والحبّ والإخاء الإنسانيّ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهو يدعوهم لما يحييهم!
وعندئذ تتحقّق لهؤلاء الدعاة إلى الله، وراثة منهج محمَّد صلى الله عليه وسلم في مشاهدة آثار آيات الله، وأعاجيب ملكوته، وأسرار ملكه في خزائنها في قلوب العباد؛ لأن كل قلب يفتح للحق والخير والتراحم الإنسانيّ هو سماء من سماوات البشريّة، تنحدر منه غيوث بشائر الإيمان والهدى والإخاء المواسي، بل المؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة!
هكذا كان واقع رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم في الحياة، بعد أن شرّفه الله تعالى بآية الإسراء والمعراج؛ لأنها كانت مبدأ التمكين في التطبيق العملي .. وهكذا كان تطبيق منهجه صلى الله عليه وسلم الذي رجع به من رحلة السماء بين الناس والأشياء!